في إطار البحث عن إمكانية عودة البلاد لمسار السلام والانتقال الديمقراطي فتحت سودان سكوب ملف العدالة مع الخبير الحقوقي علي محمد عجب، وسيشكل هذا الحوار نقطة انطلاق للتعمق في ملف العدالة الانتقالية من خلال نشر حوارات مع خبراء دوليين كانوا جزءا من التجارب العالمية في تشكيل المحاكم المتخصصة ولجان المصالحة.
ويعد توفر العدالة شرطا أساسيا في صناعة الاستقرار في ظل التعقيدات التي مر بها السودان بعد ثورة ديسمبر، فلم تتوفر عدالة لشهداء الثورة وقبل ان تعلن لجنة التحقيق في جريمة فض الاعتصام نتائجها اندلعت الحرب وطمرت القضية ضمن الاف الجثث والجرائم المرتكبة تحت ستار المعارك العسكرية او خارج ميادين النزاع.
قدم الأستاذ العجب عرضا تحليليا لقضية العدالة في السودان بالمقارنة مع كيفية تعامل نظام العدالة الدولي مع نزاعات تمت في دول أفريقية تشابه طبيعة الصراع في السودان ، كما اقترح حلولا تدعم مسار العدالة وعدم الافلات من العقاب ، وفي ذات الوقت تدفع البلاد نحو المصالحة والتعافي الاجتماعي وذلك من خلال التركيز على تطوير مفهوم العدالة الانتقالية ليستوعب تعقيدات الوضع في السودان متجاوزا لكل خطابات الكراهية المنتشرة حاليا وبما يحقق نهوض البلاد من رماد الحروب وبلوغ دولة القانون و المواطنة التي تساوي بين جميع السودانيين.
في البدء يجب أن نشير الى انه لبناء أسس العدالة الانتقالية في السودان مرتبط بكيفية إيقاف الحرب وتحقيق السلام على أسس عادلة تضمن حل جذور الإشكالات التي تؤدي الى الحروب في السودان، وفي مقدمتها التنمية غير المتوازنة والتوزيع العادل للسلطة والثروة وتأسيس مبادي المواطنة المتساوية، بما يضمن قيام دولة مؤسسات تحقق التنمية المتوازنة وتصلح المؤسسات بشكل جذري وتحقق العدالة وتنهي حالة الإفلات من العقاب وتعوض الضحايا وتعيد تأهيلهم.
كما يجب الإشارة الى أن الحرب الحالية عقدت الإشكالات التي واجهت ثورة ديسمبر المجيدة، فقد ضاعفت حجم الكوارث التي واجهت الحكومة الانتقالية، حيث دمرت البنية التحتية وخربت الاقتصاد ومزقت النسيج الاجتماعي وشردت معظم السودانيين وقضت على ممتلكاتهم، والأخطر من ذلك أنها أنتجت المزيد من المليشيات وانتشر السلاح وعسكرت الحياة المدنية وأصبحت المؤسسات العسكرية والأمنية أكثر تشدداً وتمسكاً بالحكم وقد تورطت في جرائم أكثر بشاعة سواء من جانب القوات المسلحة أو الدعم السريع. ولذلك فإن إعادة السودان الى مساره الصحيح رهين بكيفية حل هذه الإشكالات وبناء سلام حقيقي يسمح بتطبيق متكامل للعدالة الانتقالية.
في تقديري أن تطبيق العدالة في مرحلة ما بعد الحرب سيرتبط بشكل كبير بالعدالة الانتقالية، وبرغم من أن الكثير من السودانيين لديه فكرة مغايرة عن العدالة الانتقالية باعتبارها ترتكز على مسامحة المجرمين، لكن هناك كثير من القانونيين لديهم فهم حقيقي لكل جوانب العدالة الانتقالية، فهناك امكانية لإجراء المصالحات لمن يرغب ولكن هناك دائما امكانية لتنفيذ العدالة الجنائية، فمثلا اذا كان هناك بعض المتهمين يرغبون في الدخول في مسألة العدالة التصالحية لابد من توفر البينات في مواجهتهم، في تجربة جنوب افريقيا على سبيل المثال تم اعتقال عدد من المتهمين بارتكاب جرائم ولكن عندما بدأت اجراءات العدالة التصالحية في البلاد طالب المتهمون بالمشاركة في الجلسات العامة بحث يتم الاعتراف بالجرم وطلب الصفح من الضحايا، ولكن قرار العفو غير مرتبط باللجنة ولكن في حال كان اعتذارهم مقنعا للضحايا واستشعروا صدقهم حينها يمكن أن يتم الصفح.
وبهذا تعد العدالة الانتقالية أكثر شمولا وهي في إطار التعريف تنقسم الى العدالة بالإجراءات الجنائية والعدالة بالإجراءات غير الجنائية، لكن حتى في تشكيل لجان المصالحات سيكون معهم محققين يماثلون دور وكلاء النيابة ودورهم يتمثل بالمضي في الاتجاه الجنائي بالتنسيق مع الشرطة وغيرها من الجهات العدلية.
من ميزات العدالة الانتقالية أن تفتح الباب لذوي الضحايا لمعرفة مصيرهم، ففي السودان مثلا تم اختفاء اشخاص منذ العام 1989 فإذا تقدم أحد المتهمين بطلب من الأسر بالعفو عنه مقابل ابلاغهم عن مصير الشخص المختفي أتوقع أن يقبل البعض بدلا عن المضي في الاتجاهات الجنائية.
كما أن الحرب الحالية قد وسعت من دائرة الانتهاكات وعقدت طبيعة الصراعات واسهمت في انتشار السلاح وعسكرة المجتمعات المدنية، وقد ارتكبت اشكال مختلفة من الجرائم الخطيرة، وتمزق النسيج الاجتماعي ونهبت أموال المواطنين ومؤسسات الدولة، هذه الأوضاع بحاجة الى نظرة شاملة توفرها العدالة الانتقالية بما لها من قدرة على فرض القانون وانهاء حالة الإفلات من العقاب وفتح الطريق أمام التصالح وابراء الجراح.
أيضا من الجوانب المهمة في العدالة الانتقالية احياء ذكرى الضحايا والتعويضات ، ولأهمية مثل هذه الجوانب نجد أن الجهات التي ارتكبت الجرائم تكون حريصة على دفن القضية وذكرى الضحايا لطمس اثار الجريمة ، وقد لاحظنا في السودان محاولة هدم وتشويه النصب التذكارية للشهداء في الخرطوم والأبيض، وفي تقديري ان هذه العملية ليست لها منطلقات دينية وانما هي في جوهرها محاولة لتدمير اي ذكرى حتى يتناسى المجتمع الضحايا ويتنازل عن تقديم المجرمين للعدالة لأن ترميز الضحايا وصناعة نصب تذكارية لهم يعنى أن المجتمع جاد ومهتم بتحقيق العدالة لهم .
في تقديري أن مسألة العدالة التصالحية يمكن أن تكون فعـالة في السودان لأن بطبيعة السودانيين ميالين للعفو في حالة الاعتذار مهما كان الجرم كبيراً وبالتالي يمكن معالجة الكثير من القضايا عبر هذه الصيغة، أيضا يمكن أن توفر الكثير من الوقت والموارد ، ففي حال توفر المناخ الملائم لتنفيذ العدالة سيكون أمام السودانيين عشرات الالاف من المتهمين، فمن ناحية عملية لا يمكن ان تتم المحاكمات لهذا العدد الكبير والبلاد لا تمتلك البنية التحتية للاحتجاز ناهيك عن تمويل هكذا محاكمات، وهناك صيغ أخرى يمكن أن تكون مفيدة في التعامل مع هؤلاء حيث يمكن أن يتم الزامهم بتعويض الضحايا، وبالطبع هذا لا يمنع أن يتمسك ضحايا اخرين وذويهم بالمضي في مسار العدالة الجنائية.
رابعا/ ماهي الصيغة المعتمدة دوليا لتعويض الضحايا، وما الجهات الملزمة بهذه التعويضات؟
حسب اخر وثيقة صدرت عن الأمم المتحدة بشأن التعويضات في 2015 نصت على إلزام الدولة بتعويض الضحايا اذا تم ارتكاب الجريمة بواسطة أجهزتها، وفي ذات الوقت الدولة ملزمة بملاحقة مرتكبي هذه الجرائم ومحاكمتهم، والزامهم بدفع التعويضات عن الضرر الذي اصاب الضحايا، وتشير الوثيقة الأممية إلى أن تعويضات الضحايا ليست مرتبطة بإدانة المحكمة للمتهمين، فقط اثبات الضرر كافي للتعويض.
في قانون الاجراءات الجنائية في السودان تتم ادانة المجرم بالغرامة وليس بدفع تعويض للضحية، لكن بحسب خبرة القانونيين العاملين في السودان يمكن الحكم بالتعويض في حال تم الطلب في مرحلة الدعوى واثبات الضرر خلال المحاكمة، هذه كلها مسارات قانونية لإنصاف الضحايا وملاحقة مرتكبي الجرائم، لكن قضية التعويضات ليست بسيطة عند التنفيذ فهناك تعقيدات كثيرة محيطة بهذه القضية ، مثلا في تأسيس صندوق لتعويض الضحايا لابد من اسهام الدولة في تمويل الصندوق ، لكن مؤكد أن مساهمة الدولة لن تكون كافية، يمكن أن يحصل الصندوق على دعم بعض الدول ومنظمات الأمم المتحدة في حال انشاء مؤسسة مختصة تحدد تعريف الضحية بشكل مهني ومنهجي لأن التجارب العالمية تشير الى كثير من الاشكاليات التي صاحبت عمل صناديق التعويضات كما حدث في العراق وليبيا على سبيل المثال ، هناك تعويضات لحدوث ضرر جنائي أو اقتصادي أو غيرها ، وبالتالي سيكون أمام المؤسسة اعداد قانون للتعويضات يستوعب كل التعقيدات ويحدد أولويات التعويض لأنه دائما في هذه الحالات هناك طيف واسع جدا من الانتهاكات وبالتالي اتساع قاعدة الضحايا المستحقين للتعويض، المهم في هذه المسألة أن منظمة الأمم المتحدة لديها تجارب يمكن أن تسهم وضع القانون المناسب وكذلك الدول التي أنشأت هذه الصناديق نجحت الى حد كبير في تنفيذ المهمة رغم التحديات التقنية الخاصة بتحديد الضحايا والأولويات، لهذا برغم عدم وجود تجربة لجان تعويض في السودان إلا أن خبرات وتجارب الدول الأخرى ستساعد في انجاز هذه المهمة ، أيضا الجانب المالي سيشكل عائقا امام السودان بسبب ضعف الموارد لكن في حال انشاء المؤسسة المختصة وفق المعايير الدولية ستكون هناك مساحة واسعة لاستقطاب الدعم من المؤسسات الدولية.
من الجوانب المهمة في العدالة الانتقالية أن التعويضات بعد التشاور مع الضحايا وذويهم يمكن أن تذهب في بناء مؤسسات مثل المدارس او المراكز الصحية التي تحتاج لها المناطق التي شملها الضرر بدلا عن التعويض الفردي.
بشكل عام صناديق التعويضات مخصصة للمدنيين لأن أي شخص مشارك في القتال لا يعتبر ضحية بحسب القانون الدولي الإنساني.
فيما يخص تمويل تعويض الضحايا في السودان أعتقد انه من الأهمية بمكان انشاء مؤسسات معنية بالاهتمام بالضحايا يكون لها تمويل كافي وسلطة الحصول على الدعم من الدول والمؤسسات الدولية، كما ان هناك ضرورة لربط التعويضات بإعادة التأهيل والرعاية للضحايا واسرهم. كما يجب التركيز على الأموال المنهوبة واستعادتها لصالح مؤسسات تنموية ومن بينها المؤسسات المعنية بتعويض الضحايا وإعادة تأهيلهم، وحتى في مسألة اعادة الاعمار يجب أن تخصص هذه الأموال لتمويل المشروعات التنموية.
وبشكل مختصر يمكن أن نقول إن العدالة الانتقالية يجب ان تكون عملية متكاملة لإعادة بناء الدولة على أساس المواطنة المتساوية وإعادة النظر في كل الإشكالات التي أدت الى الانقلابات العسكرية والحروب ويأتي في مقدمة هذه التدابير قيام دولة القانون لمحاربة الفساد وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب وكل ما من شأنه أن يحقق شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة.