مجتبى خلف الله
مع كل يوم يمر على السودان تحت وطأة الحرب المستمرة منذ 15 أبريل 2023، تتكشف فصول جديدة من المأساة، لكن أحد أكثر فصولها إيلامًا يبقى في الظل الا و هو الدمار الممنهج لنسيج الاقتصاد الأصغر والأكثر هشاشة، وهو قطاع الصناعات الصغيرة والحرفية. المفارقة المأساوية تكمن في غياب أي تقديرات رسمية أو موثوقة لحجم هذه الكارثة، لتظل قصة دمار غير موثق ومعاناة لا تحصى في دولة انزلقت إلى هوة سحيقة من الفوضى.
إن عدم وجود تقديرات دقيقة لحجم الخسائر ليس مجرد إهمال، بل هو نتيجة مباشرة للانهيار الشامل الذي ضرب مؤسسات الدولة السودانية. فمعظم الوزارات والهيئات الحكومية توقفت عن العمل، أو تم تدمير مقارها، خاصة في العاصمة الخرطوم. الجهاز المركزي للإحصاء، الذي يُعول عليه في رصد النشاط الاقتصادي، لم يصدر أي بيانات ذات قيمة منذ اندلاع النزاع، مما يجعل أي محاولة لتقييم رسمي للوضع أمرًا شبه مستحيل.
يزيد الأمر تعقيدًا صعوبة الوصول إلى مناطق الاشتباك الأكثر تضررًا، مثل قلب الخرطوم، نيالا، والجنينة. كيف يمكن للمرء أن يقيم حجم الخسائر في ورشة حُولت إلى رماد إذا لم يتمكن من الوصول إليها؟ ويُضاف إلى ذلك أن غالبية الصناعات الصغيرة والحرفية في السودان تعمل ضمن القطاع غير الرسمي، أي أنها لم تكن مسجلة رسميًا في المقام الأول، مما يجعل من تتبع خسائرها مهمة شاقة للغاية. أخيرًا، وفي ظل الأزمة الإنسانية الطاحنة، تتجه أولوية المنظمات الدولية والمحلية نحو الغذاء، الصحة، والمأوى، ليُترك الاقتصاد الحرفي، على أهميته البالغة، ليتعافى بمفرده أو يتلاشى.
و على الرغم من غياب الأرقام الرسمية، تظهر بعض المؤشرات غير الرسمية لترسم صورة قاتمة للوضع. تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية (ILO) في نهاية عام 2023 كان صادمًا، حيث أشار إلى أن "أكثر من 70% من العاملين في الصناعات الصغيرة والحرفية في الخرطوم ودارفور فقدوا مصدر دخلهم بالكامل، بسبب الحرب والنزوح وفقدان أدوات الإنتاج." هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو انعكاس لمعاناة مئات الآلاف من الأسر التي فقدت مصدر رزقها الوحيد.
ويتفق ذلك معنا في اتحاد أصحاب العمل السوداني، اذ نقدر بشكل غير رسمي أن "نحو 80% من الورش الصغيرة والمشاغل اليدوية في الخرطوم الكبرى توقفت عن العمل كليًا أو جزئيًا بعد الحرب". وتشير مراكز دراسات اقتصادية مثل "سودان ريستارت" (Sudan Restart) إلى تضرر أكثر من 300 ألف منشأة صغيرة في العاصمة والمناطق المتأثرة. تُقدر الخسائر المادية، المباشرة وغير المباشرة، في هذا القطاع بمليارات الجنيهات السودانية، وإن كان الرقم الدقيق الموحد يظل غامضًا.
تؤكد الأمثلة الواقعية على الأرض هذه التقديرات المأساوية. ففي سوق أمدرمان الصناعي، الذي كان يومًا مركزًا للنشاط والحيوية، توقفت أكثر من 90% من الورش عن العمل، واحترق بعضها بالكامل. وفي نيالا وجنوب دارفور، فقد أغلب صناع الأحذية والجلود مخازنهم، أو أُجبروا على النزوح القسري، تاركين وراءهم عقودًا من العمل والخبرة. حتى في بورتسودان، التي شهدت بعض التعافي النسبي كونها أصبحت الملاذ الآمن نسبيًا، فإن السوق المحلي وحده غير كافٍ لتعويض الخسائر الفادحة التي تكبدتها المناطق الأخرى.
الخلاصة واضحة ومؤلمة: لا توجد أرقام دقيقة، ولكن جميع المؤشرات تؤكد أن الضرر في هذا القطاع بالغ جدًا. أكثر من نصف مليون عامل وحرفي تأثروا بشكل مباشر أو غير مباشر، وهم يمثلون العمود الفقري للاقتصاد المحلي في كثير من المناطق. إن الوضع يتطلب أكثر من مجرد إغاثة عاجلة؛ إنه يحتاج إلى مسح ميداني شامل وفوري لتقدير حجم الدمار، يليه خطة شاملة لإعادة التأهيل المنظم لهذا القطاع الحيوي.
إن إعادة إحياء الصناعات الصغيرة والحرفية ستكون خطوة أساسية نحو أي تعافٍ اقتصادي مستقبلي للسودان. لكن السؤال الأكبر والأكثر إلحاحًا يبقى: هل سيتوفر للسودان الاستقرار اللازم لبدء عملية إعادة الإعمار هذه قبل أن يمحو النزاع ما تبقى من بصيص أمل في هذه الصناعات؟
الأمين العام السابق لاتحاد أصحاب العمل السوداني