الفاشر-سودان سكوب

في السودان، وتحديداً في مدينة الفاشر، لم يعد الجوع مجرد إحصائية، بل أصبح واقعاً مريراً يهدد حياة الآلاف. بينما تتجه الأنظار إلى الصراع المسلح، تبرز أزمة صامتة أكثر فتكاً: انهيار النظام الغذائي وتزايد اليأس.

التقارير التي تصل من الفاشر، والتي تحاصرها قوات الدعم السريع، ليست مجرد أخبار عن نقص في السلع. إنها شهادات حية على انهيار منظومة الحياة الأساسية. و المشكلة ما بين غياب السلع بشكل كامل، و ندرتها ووصول أسعارها إلى مستويات خيالية. وكما يوضح مجلس غرف طوارئ شمال دارفور، فإن سعر جوال الذرة وصل إلى 9 ملايين جنيه سوداني، وهو رقم يعكس ليس فقط التضخم، بل حالة من الفوضى الاقتصادية الكاملة. هذا السعر ليس مجرد رقم، بل هو حكم بالإعدام على الأسر الأكثر فقراً وعجزاً.

في قلب هذه المأساة، تبرز مبادرات إنسانية محلية تحاول سد الفجوة التي خلّفها غياب الدولة والمجتمع الدولي.

 غرفة طوارئ معسكر أبوشوك ومبادرة "مطبخ الخير من أهل الخير" هما مثالان صارخان على كيفية صمود الأمل في مواجهة اليأس. تعمل هذه المطابخ الجماعية على توفير وجبات للنازحين، لكنها تواجه تحديات غير مسبوقة. غرفة طوارئ أبوشوك تتحدث عن ارتفاع في معدلات الوفيات، خاصة بين الأطفال وكبار السن، بسبب سوء التغذية والأمراض.

إن هذه المطابخ ليست مجرد أماكن لتوزيع الطعام؛ إنها خط الدفاع الأخير ضد المجاعة. وعندما تتوقف إحدى هذه المبادرات عن العمل، فإن ذلك لا يعني أن الحاجة انتهت، بل يعني أن الأزمة قد تجاوزت قدرتها على الاستمرار. هذا ما حدث مع "تكية الفاشر" التي أعلنت وقف استقبال التبرعات بسبب "انعدام السلع الغذائية". هذا الإعلان المأساوي يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار للمجتمع الدولي.

لكن في خضم هذا اليأس، تبرز أصوات ترفض الاستسلام. محمد الرفاعي، المشرف على "مطبخ الخير"، يقول: "سنواصل عملنا مهما ارتفعت الأسعار... حتى لو بقي مطبخ واحد، يجب أن يوفر وجبة في اليوم، ولا خيار أمامنا سوى الاستمرار، حتى لو كان ما نقدمه مجرد ماء". هذا التصريح ليس مجرد تعبير عن العزيمة، بل هو صرخة إنسانية من قلب الأزمة. يوضح الرفاعي أن السلع موجودة، لكنها محتكرة من قبل تجار انتهازيين يتربصون بالأسعار، مما يزيد من صعوبة الوصول إليها.

لقد حذّر برنامج الأغذية العالمي من خطر مجاعة تلوح في الأفق. لكن هذه التحذيرات لن تكون كافية ما لم تُترجم إلى فعل ملموس. إن الوضع في الفاشر، وفي معسكرات مثل أبوشوك، يتطلب تدخلاً عاجلاً وفورياً. ليس فقط لتوفير الغذاء، بل لدعم هذه الكوادر المحلية التي تعمل في ظروف مستحيلة.

إن هذه الأزمة في السودان، وتحديداً في الفاشر، ليست مجرد حدث محلي. إنها تذكير مؤلم بأن العالم لا يزال يفشل في حماية الفئات الأكثر ضعفاً. إن الجوع، الذي نعتبره من بقايا الماضي، يعود ليضرب بقوة في القرن الحادي والعشرين. والأبطال الحقيقيون ليسوا القادة العسكريين، بل هم المتطوعون في مطابخ الخير، الذين يقاتلون بملعقة وطبق لإنقاذ أرواح بريئة.