أم درمان-سودان سكوب
بالكاد تعرفت علي الخرطوم قلب السودان النابض بالحياة، شوارع تتوشح بالعربات المحطمة والأشجار٬ ومعالم طريق شاحبة ومخيفة، رغم بلوغ الأمن والطمأنينة من الدعم السريع مداه.
عاصمة بلا خدمات
كغيري من مواطني العاصمة الفارين مع اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية التي أدت إلى تفتت المدينةكان هناك آخرون عائدون على نفس الطرق يحملون أمتعتهم وأثاثهم الجديد في شاحنات صغيرة، مدركين أن كل شيء في الخرطوم قد نُهِب٬ لكن بصراحة لم يكن عدد الناس بالقدر الذي توقعته، كان كل من تحدثتُ إليهم على طول الطريق متفائلين بالعودة ومرتاحين لطرد قوات الدعم السريع أخيرًا٬ لكن ما إن وصلنا الخرطوم حتى تبدّل الوضع شعر معظمهم بخيبة أمل إزاء الواقع على الأرض، لا كهرباء، لا إنترنت، لا أسواق غير صابرين، ونقص في الغذاء.
كانت الرحلة طويلة ونقاط تفتيش الجيش ليست كالسابق اقل بكثير، لكن أفراد شرطة المرور تجدهم وجباياتهم على طول الطريق، كنت مثل كثيرين غيري اتخذتُ قرار العودة بعد ورود أنباء في أبريل تفيد بسيطرة الجيش الكاملة على الخرطوم من قوات الدعم السريع بالرغم من ترددًي في العودة لكنني بعد التشاور مع الأسرة قررت العودة أولا حيث يمكنني أن أجهز المنزل تمهيدا لعودة أسرتي كاملة.
منازل الفلول!
كنتُ في شوق لمعرفة مصير الحي الذي ترعرت فيه، ومنزلنا الذي لم تفارقني جدرانه طوال فترة نزوحي، وعند الوصول اليه وجدتُ الباب مثقوبًا في كل نقطة فيه مايدل علي اندلاع معركة حامية بالقرب منه، خاصة وأن منطقتنا كان يسيطر عليها الدعم السريع، وبعد عناء طويل تمكنت من التعامل مع واقع تشابك الاشجار تمكنتُ من الدخول، واستقبلتني الفوضى العارمة فقد وجدت منزلي كغيري مدمر، وعاري من كل شيء بسبب نهب مقاتلي قوات الدعم السريع، شعرت بمزيج مربك من المفاجأة والصدمة والغضب إزاء ما كنت أراه.
أخبرنا الجيران أن أحد أفراد قوات الدعم السريع كان يسكن فيه، معظم المباني المجاورة لمنزلي تأثرت بالرصاص إلى جانب الكثير من الذخائر خاصة منزل أسرتي لاعتقاد مقاتلي الدعم السريعة أنه يتبع للفلول، وأخبرني الجيران بأنهم حاولوا اقناع عناصر الدعم أن هذا المنزل حصيلة عرق واغتراب معظم أفراد الأسرة لكن كان منطق الطرف الاخر بأن مبنى كهذا لا يمكن أن يمتلكه إلا فلولي لص! .
احتلال المنازل ما زال قائما
وقبل أن أغادر الحديث عن جيراني أود أن أذكر ملاحظة مهمة، كل من صمد في الحي ولم يغادر تغير شكله خلال عامين ليبدو أكبر من عمره بما يقارب 20 عاما.
من المفاجآت المحزنة التي أخبرني بها الاصدقاء في الحي أن هناك غرباء استقروا في منازل بعض السكان، بعضهم يرفض المغادرة بحجة أنه نازح من منطقة مدمرة أو لعدم توفر بديل وحدثت نزاعات متفرقة بين الطرفين بعضهم خرج فيما رفض بعضهم عدم الخروج لسكان المنازل الأصليين، وأضافوا همسا وهم يلتفتون يمنة ويسرة أن بعض المحتلين للمنازل من القوات النظامية ! وكانت خاتمة الحديث تحذيرية عودوا لمنزلكم جميعا وبأسرع وقت وإلا ستفقدونه إلى الأبد !.
نظفنا المنزل مستعينين بشركة نظافة كلفتنا مبلغا كبيرا ولكن لم يكن لدينا رفاهية الرفض والبحث عن خيارات قد تستغرق أياما.
عندي خروجي للشارع صباحا كان عدد المارة في الشوارع قليلاً مع أنني سمعت عن مبادرة شعبية جارية لإعادة المياه والكهرباء والخدمات الصحية الأساسية لعودة الاهالي لكن لم يتحقق شيء حتى الآن٬ ولكن هناك خطط لجمع التبرعات من سكان الحي اذ تُعد مشكلة المياه أحد أبرز العقبات التي تواجه العائدين وأقل ما توصف بأنها "رحلة يومية مرهقة لبدن انهكته الحرب والنزوح اليومي بحثاً عن مصدر نظيف للمياه٬ والكهرباء ليست بأفضل حال لدرجة أن معظم معارفنا قرروا تأجيل عودتهم إلى منازلهم لانعدام الخدمات، وأكثر عبارة يمكنها وصف الواقع الان هي "أي شئ بقروش"٬ إذ يجب عليك أن تدفع مقابل المياه، ومقابل شحن هاتفك، وإذا أردت الكهرباء بشكل مستمر تحتاج إلى محطة طاقة شمسية، وهو ما لا يستطيع توفيره السكان المتواجدين أو العائدين من جحيم النزوح واللجوء٬ وفي بعض المناطق تمثل الطاقة الشمسية التي يتبرع بها الخيرين متنفساً وحيداً أمام عتمة متواصلة وانقطاع طويل للخدمات.
مخاوف صحية
ورغم النجاح في إحتواء موجة تفشي الكوليرا، لم تتراجع المخاوف الصحية في عدة مناطق بالعاصمة الوطنية أم درمان وسط جهود إنسانية وصحية متواصلة٬ خاصة أن الخطر القادم يتمثل في حمى الضنك مع قرب دخول فصل الخريف٬ حيث يجري تسجيل إصابات جديدة في عدد من مناطق أمدرمان ومعظم المستشفيات الطرفية لا تعمل حتي المراكز الصحية التي عادت للعمل توقفت.
اكتظاظ سكاني وأمن مفقود
منطقة أم درمان علي الرغم امتلاك قوات الأمن والاستخبارات والجيش والقليل من قوات الشرطة زمام أمرها لكن تعاني المنطقة من الاكتظاظ السكاني وانتشار الجريمة وتجارة المخدرات٬ خاصة منطقة الثورات وماجاورها من الاسكانات و الأحياء المتاخمة كسوق "صابرين" الأمر الذي انعكس علي صعوبة حركة المشاة والمركبات وخلق أزمة حقيقة للمواطنين٬ ويسود الرعب وسط كثير من السكان بسبب انتشار السطو المسلح، وازدياد حوادث النهب في وضح النهار علي عين ومسمع القوات الأمنية، وتحدثت فترة تواجدي إلى العشرات من المواطنين في مناطق أمدرمان المختلفة وكانت الشكوى من عدم توفر الأمن في مقدمة التحديات التي يعايشونها يوميا٬ فهناك انعدام في الخدمات مثل عدم توفر المياه وانقطاع التيار الكهربائي لفترة طويلة تمتد إلى 12ساعة احيانا خلال اليوم، إلى جانب ارتفاع تكاليف المعيشة اليومية، وعدم توفر الخضروات و الفواكة كما كان في السابق رغم ارتفاع اسعارها ومحدوديتها. أما تعرفة الموصلات العامة فهي فوق طاقة الكثيرين حيث تتفاوت من 1500- 4000 جنيه .
منهوبات المواطنين تباع أمام أعين الأجهزة الأمنية
من الظواهر التي تحتاج إلى وقفة هي بيع أغراض المواطنين( المشفشفة) علي مرأى ومسمع القوات الأمنية٬ بل بعضهم يشتري من هذه المسروقات.
من أهم الظواهر التي تواجهك لحظة الخروج إلى الشوارع الرئيسية هي الانتشار الكبير للنشالين ومعتادي الاجرام٬ حيث تعرضت لحادث سرقة هاتفي في اليوم الثاني لوصولي.
استمرار النزوح أم العودة ؟!
من أسوأ افرازات الحرب هي سيطرة العصابات على مناطق كبيرة في قلب أمدرمان بحيث يستحيل على الشخص العادي المرور بها نهارا دعك من الليل٬ على سبيل المثال السوق الشعبي والمصانع شرق أمدرمان لا تزال الحركة فيها محدودة للغاية بسبب مخاطر النهب وإذا قاومت يمكن أن تواجه الموت، لهذا وجدت حالة يأس لدى الكثيرين من عودة هذه المناطق الحيوية لطبيعتها السابقة، لهذا معظم المواطنين يتخوفون من العبور بها نتيجة لتواجد قطاع الطرق المسلحين في وضح النهار .
كغيري أدركت سريعا أنني لا استطيع البقاء في الخرطوم بعد الحملة التي أطلقتها الحكومة لحث الناس على العودة إلى منازلهم، فالوضع الحالي لمدينة أم درمان مثلا يجعل من الصعب عليهم إعادة بناء حياتهم على الرغم من أن منطقة أم درمان بشكل عام تعد من أكثر المناطق حركة وحيوية قبل وأثناء وبعد الحرب.