القاهرة-سودان سكوب

حكايات لا تُروى في نشرات الأخبار اليومية. إنها قصص نساء سودانيات، أجبرتهن الحرب على ترك كل شيء خلفهن، ليجدن أنفسهن في مواجهة واقع قاسٍ، يلقي بالحمل أكمله على أكتافهن النحيلة. لم يكن النزوح و اللجوء مجرد تغيير في المكان، بل كان تحولاً جذرياً في الأدوار، في مفهوم الأسرة، وفي معنى البقاء.

تخيّل امرأة، ربما كانت بالأمس ربة منزل أو معلمة أو مزارعة، تجد نفسها اليوم المعيل الوحيد لأسرة بأكملها. أين اختفى الرجال؟ بعضهم لم يتمكن من عبور الحدود، قوانين صارمة حالت دون دخولهم. وآخرون، ارتأوا البقاء في السودان، معلقين آمالاً واهية على فرصة عمل، أو ربما انخرطوا في أتون الحرب، إما قتلاً أو فقداً أو تجنيداً قسرياً. أو آثروا حماية ممتلكاتهم من النهب ٬ أما القلة الذين وصلوا، فغالباً ما يواجهون جدار البطالة العالي و قلة فرص العمل و اختلاف سوقه، فلا يجدون عملاً يقيهم ذل الحاجة.

هكذا، وجدت النساء السودانيات أنفسهن في المقدمة، يدفعن الثمن الأكبر لهذه الحرب. الأم التي كانت تعتمد على زوجها، أصبحت الآن هي المسؤولة عن تأمين الطعام والمأوى والدواء لأبنائها. الابنة الكبرى تجد نفسها أحياناً في موقع الأم، ترعى إخوتها الصغار بينما تحاول والدتها يائسة إيجاد أي مصدر رزق. إنه تحول مؤلم، ولكنه تحول فرضته قسوة الظروف و صراع الجنرالات بقرب منازلهن. 

في محاولة يائسة لتأمين لقمة العيش، عادت الكثير من النساء إلى ما يعرفنه من الحرف اليدوية. تتلألأ قوارير العطور السودانية التقليدية، وتفوح منها الروائح التي تعيد الذكريات بوطن مفقود و ايضا صناعة البخور، و بعض المأكولات التقليدية تُعرض في أسواق صغيرة أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي. هذه البضائع، التي كانت يوماً رمزاً للضيافة السودانية وكرمها، أصبحت الآن شريان حياة للكثيرات.

لكن حتى هذا الشريان بات يضيق. 

السوق لم يعد كما كان. تخيّل أن الجميع يصنع نفس المنتجات، العرض يفيض، والطلب يندر. و الزبائن في أغلبهم، هم من أبناء الجالية السودانية نفسها و معظمهم من ضحايا الحرب، الذين يعانون هم أيضاً من ضيق اليد. ومع مرور الوقت، وتآكل المدخرات، أصبحت هذه الكماليات آخر ما يفكرون فيه من سيشتري العطور والبخور وسعرها مرتفع بسبب تكلفة شحن المواد من السودان، بينما لا يكاد يجد ما يسد رمقه؟ يضاف إلى ذلك، أن معظم هؤلاء النسوة، اللاتي أتقن فن صناعة هذه العطور، لم يتقنّ فنون البيع والتسويق. وهكذا تتبدد الأحلام المعطرة بالعطور، وتذبل معها آمال الكثيرات في توفير حياة كريمة.

عندما تضيق السبل، تتجه بعض النساء إلى القطاع غير المنظم. تجد الواحدة منهن نفسها تعمل كعاملة منزلية، أو في صالونات التجميل بأجور زهيدة لا تكاد تسد رمقها ورمق أطفالها. إنها حياة في الظل، مليئة بالمخاطر.

الأجور ضعيفة، فرص العمل البديلة نادرة، والأخطر من كل ذلك هو غياب تصاريح العمل. هذه الورقة الصغيرة، التي تمنح العامل حقاً وحماية، هي ما تفتقده الغالبية العظمى منهن. وهذا يجعلهن عرضة للاستغلال و للأجور المبتورة، ولخطر الطرد في أي لحظة. لا حماية قانونية، لا ضمانات، لا حقوق. إنه مأوى هش، بالكاد يحميهن من برد الجوع والعوز.

و بالجانب الآخر تتلقف مفوضية اللاجئين أعداداً هائلة من السودانيين، أعداد تفوق بكثير قدرتها على تقديم الدعم الكافي. المساعدات الإنسانية، التي كان يُفترض أن تكون طوق نجاة، أصبحت مجرد نقطة في بحر الحاجة المتسع. الكثيرات من هؤلاء النساء، اللاتي يحملن على عاتقهن مسؤولية أسر بأكملها، لا يصلهن شيء من هذا الدعم. يتركن لمصيرهن، يصارعن وحيدات في عالم لم يعد يراهن.

إنها ليست مجرد إحصائيات، بل هي قصص حقيقية لنساء يكافحن كل يوم، ليس فقط من أجل البقاء، بل من أجل الحفاظ على كرامة أسرهن في هذا النزوح القسري. ألا تستحق هذه القصص أن تُسمع، وهذه الصرخات أن تُستجاب؟