الدلنج-سودان سكوب

مأساة مدينة الدلنج في ولاية جنوب كردفان. هذه ليست مجرد حكاية أخرى من ويلات الحرب الأهلية؛ إنها دراسة حالة مؤلمة لكيفية أن يتضافر الحصار العسكري مع الفساد المتجذر ليخلق كارثة إنسانية وشيكة.
لقد أصبحت الدلنج، وشقيقتها كادقلي، محاصرتين بشكل خانق من قبل قوات الدعم السريع وفصائل الحركة الشعبية لتحرير السودان – جناح الحلو. الشرايين الحيوية التي تغذي المدينة، وهي الطرق المؤدية شمالاً نحو الأبيض، وشرقاً إلى هبيلا والرهد، وغرباً باتجاه أسواق النعام، أُغلقت بالكامل. هذه الإغلاقات ليست مجرد عوائق لوجستية؛ إنها خنق بطيء لشريان الحياة لمجتمع بأكمله، وهو ما دفع العديد من المنصات الإعلامية إلى إطلاق وسم «#انقذواكادقليالدلنجكردفانمن_الحصار»،
تحذيراً من تفاقم الأزمة الإنسانية.

الفساد الداخلي .. طبقة إضافية من الأزمة

لكن الأزمة لا تقتصر على الحصار الخارجي. فبينما يرزح المواطنون تحت وطأة ندرة السلع وارتفاع الأسعار الجنوني – حيث بلغ سعر كيلو السكر 20 ألف جنيه وملوة البصل 95 ألف جنيه في ظل تدهور اقتصادي غير مسبوق – تتكشف طبقة إضافية من الاستغلال والفساد من الداخل.
وفقاً لشهادة تاجر محلي فضّل عدم الكشف عن اسمه، فإن لجنة أمن الولاية، التي يُفترض أن تكون حارسة النظام وحامية السوق، قد تحولت إلى لاعب رئيسي في حالة الفوضى. دورها، الذي كان ينبغي أن يقتصر على مراقبة حركة البضائع ونقلها، توسع بشكل غير مبرر ليشمل التدخل المباشر في تنظيم السوق وتوزيع السلع. والنتيجة؟ تحول الأسواق إلى ما يمكن وصفه بفوضى منظمة حيث تقتصر مصادر البضائع على منطقة (دار حمر) فقط، ويتم احتكارها وتخزينها من قبل تجار محددين، مما يخلق ندرة مصطنعة ويدفع الأسعار للارتفاع.
الأكثر إثارة للقلق هو ما كشفه التاجر من أن "العديد من أعضاء الحكومة، بمن فيهم المدراء التنفيذيون وبعض ضباط الجيش، يعملون كتجار في الأسواق". هذا التداخل الصارخ بين السلطة التنفيذية والمصالح التجارية يمثل بؤرة للفساد، حيث يتم التلاعب بكميات السلع المعروضة، بل وحتى منع دخول سلع أساسية كالسكّر والدقيق بحجة "توفر كميات كافية"، في حين أن الواقع على الأرض يشير إلى أزمة حقيقية ونقص حاد.
هذه السياسات، التي وصفها التاجر بأنها "غير مدروسة ومجحفة"، تخدم مصالح فئة محدودة على حساب معاناة عامة المواطنين.
إجراءات قمعية لا تعالج الجذور

في محاولة يائسة للسيطرة على الأوضاع، احتجزت السلطات المحلية 19 تاجراً لمدة ستة أيام وفرضت عليهم غرامات مالية بتهمة بيع السلع بأسعار مرتفعة. هذه الإجراءات، التي تراوحت غراماتها بين 500 ألف ومليون جنيه سوداني، وإن كانت تهدف ظاهرياً إلى حماية المستهلك، إلا أنها تبدو أشبه بمعالجة الأعراض دون التطرق لجذور المشكلة. فهل يمكن لمثل هذه التدابير أن تنجح عندما يكون الخلل متجذراً في قلب النظام نفسه، متأثراً بالحصار والتلاعب بالأسواق؟
ما يحدث في الدلنج هو صورة مصغرة للتحديات الأعمق التي تواجه الدول الهشة في أوقات النزاع. عندما تتآكل مؤسسات الدولة، وتغيب الشفافية والمساءلة، وتتداخل المصالح الخاصة مع الواجبات العامة، يصبح المواطن العادي هو الضحية الأولى. اعتماد السكان على "بليلة الذرة" كمصدر رئيسي للغذاء يؤكد عمق الأزمة، بينما تتضاءل الآمال في تدخل سريع مع استمرار ندرة السيولة النقدية وإغلاق المحال التجارية.
إن "كارثة بكل المقاييس" تلوح في الأفق في الدلنج. هذه ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها قصة تحذيرية لكيفية أن يؤدي التقاء الحصار المادي بالفساد الأخلاقي إلى انهيار مجتمع بأكمله. السؤال ليس فقط كيف يمكن إنقاذ الدلنج، بل كيف يمكن للمجتمع الدولي والفاعلين السودانيين أنفسهم أن يستخلصوا الدروس من هذه المأساة لضمان عدم تكرارها في مناطق أخرى.