في زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات الرقمية، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة دافعة لمستقبل الأمم. ولتسليط الضوء على آفاق هذا المجال الواعد وتحدياته، نستضيف اليوم قامة أكاديمية وعلمية، الدكتور عثمان أحمد عبدالله. ولد ونشأ الدكتور عثمان في مدينة ودمدني، حيث نهل العلم في جميع مراحله حتى نيل درجتي البكالوريوس والماجستير. واصل مسيرته الأكاديمية ليحصل على درجة الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي من جامعة بتروناس المرموقة في ماليزيا.
الدكتور عثمان، أستاذ مساعد في قسم علوم الحاسب بجامعة تبوك بالمملكة العربية السعودية، يمتلك خبرة أكاديمية وبحثية تمتد لأكثر من 20 عامًا. إلى جانب مساهماته العلمية، يبرز اهتمامه العميق بالقضايا السياسية والاجتماعية في السودان، سعيًا منه لتقديم الرأي والتحليل حول القضايا العامة. في هذا الحوار، سنستكشف معه رؤيته للذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن يسهم في بناء مستقبل أفضل للسودان، مستعرضين التحديات والفرص في ظل الواقع الراهن.
رغم التحديات الجمة التي يواجهها السودان، لا تزال آمال استخدام الذكاء الاصطناعي تتوقد لتحقيق نقلة نوعية في مختلف القطاعات الحيوية. في هذا الحوار، نغوص في أعماق هذا المجال مع خبير يكشف لنا عن إمكانياته، ويسلط الضوء على الواقع الراهن والمستقبل المنشود.

بداية، كيف تعرف الذكاء الاصطناعي لشخص غير متخصص؟

الذكاء الاصطناعي هو فرع من فروع علوم الحاسب يهدف إلى تطوير أنظمة حاسوبية تحاكي العقل البشري في عملها وبنيتها، وتمتلك القدرة على أداء المهام بذكاء، مثل التعلم، حل المشكلات، واتخاذ القرارات. على سبيل المثال، يتعلم تطبيق ترجمة جوجل من ملايين الجمل لترجمة جملة جديدة لم يصادفها من قبل.

كيف كانت رحلتك الأكاديمية في التخصص في الذكاء الاصطناعي ولماذا اخترته؟

بدأت رحلتي مع الذكاء الاصطناعي في نهاية التسعينيات، عندما درسته كمقرر إجباري في الكلية. انجذبت بشدة للمجال عندما اكتشفت أن برنامجًا بسيطًا يمكنه التفوق على أستاذي في تصنيف الأوراق البحثية. منذ ذلك الحين، قررت أن أكرس هذا العلم لخدمة واقعنا. ثم كانت مرحلة الدكتوراه في تخصص الذكاء الاصطناعي، حيث تناولت أطروحتي موضوع تحسين معلمات الشبكات العصبية الاصطناعية باستخدام الخوارزمية الجينية.

هل هناك استخدامات حالية أو تجارب ناشئة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في السودان؟

السودان ما زال في البدايات، لكن توجد محاولات جيدة رغم التحديات الكبيرة مثل الحرب وقلة الإمكانيات. على سبيل المثال:

الزراعة والري والطقس: هناك تجارب لاستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الخاصة بالطقس والتربة والمياه بهدف تحسين جودة الزراعة من خلال التحليل الدقيق والتنبؤ. في يونيو 2023، وقعت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) ووزارة الزراعة السودانية اتفاقًا لاستخدام نموذج "التنبؤ بالجفاف" المبني على الشبكات العصبية الاصطناعية. يحلل هذا النموذج صور الأقمار الصناعية المجانية (Sentinel-2) ومعطيات المناخ، ثم يصدر تحذيرات مبكرة للمزارعين. ونتيجة لذلك، وبعد موسم واحد (خريف 2023)، تمت تغطية 150 ألف هكتار في ولايتي (كسلا) و (النيل الأزرق) ، وانخفضت نسبة فقدان المحصول بنسبة 15% مقارنة بالموسم السابق، وفق تقرير الفاو الصادر في يناير 2024.

التعليم: يوجد شباب كثيرون مهتمون بالذكاء الاصطناعي من خلال الدراسة عبر الإنترنت في منصات مثل Coursera وغيرها من المنصات المجانية. كما أن هناك تجارب ناشئة لتطوير برمجيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي. في يوليو 2022، أطلقت منظمة اليونيسف ووزارة التربية والتعليم السودانية مشروع التعلم الذكي (Smart Learning Sudan) ضمن برنامج (Giga) بهدف ربط المدارس بالإنترنت. يستخدم النظام محرك توصية يعتمد على تعلم الآلة يُدعى (التقويم الآلي) لتحليل أداء الطالب على منصة Moodle، ويولد لكل تلميذ مسار تعلم شخصي من 250 درسًا رقميًا في الرياضيات والعلوم للصفوف من السابع للتاسع. بعد عام دراسي واحد (2022–2023)، شملت المنصة 25 مدرسة ثانوية في ولايات (الخرطوم) و (سنار) وكسلا، وبلغ عدد الطلاب المسجلين 18,600 طالب وطالبة. ارتفع متوسط درجات مقرر الرياضيات بنسبة 12% في الامتحان النهائي مقارنة بالمدارس غير المشمولة، حسب تقرير التقييم المستقل الذي أصدرته اليونيسف في مارس 2024.

الصحة: توجد تجارب عملية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الصحة، مثل الاستفادة من حزمة جوجل للتصوير الطبي التي توفر المساعدة للأطباء في تشخيص الأمراض ومراقبة تطور العلاج. هناك أيضًا تجارب في برمجيات طبية تعتمد على الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تشخيص الأمراض وغيرها من الخدمات.

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في حل المشكلات المزمنة مثل الزراعة والتعليم والصحة وإدارة الموارد؟

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم حلولًا مبتكرة وقيمة إذا تم استخدامه بشكل علمي وصحيح، على سبيل المثال:

الزراعة: تخيل برنامجًا صغيرًا يخبر المزارع: "ازرع محصولًا محددًا هذا العام لأن المناخ سيكون مناسبًا، ولن تتأثر التربة كثيرًا". بهذا، يمكن توفير المياه والجهد وزيادة الإنتاج.
التعليم: يمكننا تطوير تطبيقات ذكية تقدم دروسًا للطلاب في القرى البعيدة، حتى لو لم يتوفر المعلمون بالعدد المطلوب، مما يعني أن كل طالب تتوفر له دروس تناسب مستواه.
الصحة: تطوير أنظمة لتحليل بيانات المرضى توفر للأطباء معلومات تنبؤية، مثل: "هناك أزمة سوء تغذية قادمة، احتاطوا لذلك مبكرًا". بهذا يمكننا إنقاذ أرواح كثيرة.
إدارة الموارد: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات المياه أو الكهرباء، ويوضح لك كيفية توزيعها بكفاءة بدلًا من الهدر المتواصل.
لكن من المهم التأكيد على أننا نحتاج إلى بنية تحتية مناسبة وتدريب مستمر للمتخصصين لتمكينهم من التعامل مع هذه الأدوات.

ما مدى وعي المؤسسات السودانية بأهمية البيانات وتحليلها؟ وهل هناك ممارسات جيدة يمكن الاستناد عليها؟

بصراحة، الوضع حاليًا في السودان صعب بسبب الحرب، والوعي المؤسسي بقيمة البيانات غير كافٍ لعدة أسباب:

أولًا البنية التحتية مدمرة: دمرت الحرب بشكل كبير أنظمة جمع وتخزين ومعالجة البيانات.

ثانيًا قلة الخبرة: هناك ندرة في المتخصصين في مجال تحليل البيانات، كما أن هذا المجال تأثر بالهجرة الكبيرة للكوادر المتخصصة.

ثالثًا غياب القوانين: لا توجد قوانين واضحة تحمي البيانات، مما يؤدي إلى قلة مشاركة البيانات.
لكن توجد محاولات جيدة لاستخدام أدوات تحليل البيانات لتوثيق الأحداث المهمة وكشف التزييف. لو تم البناء على هذه التجارب ودعمها، لربما نصل إلى نتائج ممتازة.

كيف يمكن دمج الذكاء الاصطناعي مع التحول الرقمي وتحليل البيانات لتحقيق نقلة في جودة وسهولة تقديم الخدمات العامة؟

إذا خططنا لإحداث نقلة نوعية في الخدمات العامة، لا بد من ربط الذكاء الاصطناعي بالتحول الرقمي من خلال عدة مسارات:

أولًا توفير شبكة اتصالات مستقرة وإنترنت عالي السرعة: بدون إنترنت سريع ومستقر، سيكون الذكاء الاصطناعي عديم الجدوى. لذا، يجب التركيز على تحسين أداء شبكات الاتصالات والإنترنت.

ثانيًا التدريب: يجب تدريب الموظفين العاملين في القطاعين العام والخاص على استخدام الأدوات العصرية مثل تحليل البيانات وبرامج الذكاء الاصطناعي.

ثالثًا قواعد البيانات: يجب الاهتمام بتطوير أنظمة قواعد البيانات لكافة المجالات مثل (الصحة، التعليم، الزراعة وغيرها).

رابعًا التطبيقات الذكية: من المهم تطوير تطبيقات ذكية لتسهيل الخدمات الحكومية، مثل خدمات السجل المدني والجوازات والمرور وغيرها.

خامسًا الشراكات: من الضروري عقد شراكات مع مؤسسات عالمية مثل جوجل ومايكروسوفت وسيسكو وهواوي وأوراكل لتسريع عملية التطور التقني.

يُستخدم الذكاء الاصطناعي لأغراض خطرة خصوصًا في ظل الحروب والصراعات، منها ما يُعرف بتقنية "التزييف العميق" لصنع فيديوهات أو تسجيلات صوتية أو صور مزيفة، مما يؤدي إلى مشكلات اجتماعية وأخلاقية وسياسية. ما هو أثر تقنية "التزييف العميق" على سياق الحرب الحالية بزيادة الفبركة والتضليل؟

بالتأكيد، تسبب استخدام التزييف العميق في العديد من حالات التضليل والفبركة التي ساهمت في إطالة أمد الحرب وتسببت في الكثير من المشكلات لأشخاص وتنظيمات سياسية وعسكرية. في مارس 2022، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو "ديب فيك" للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يدعو فيه الجيش للاستسلام، مما أدى إلى اضطراب مؤقت في الخطاب العسكري الأوكراني.

هل يمكن مكافحة التزييف العميق بأدوات الذكاء الاصطناعي نفسه؟

نعم، يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لمكافحة التزييف العميق من خلال:

أولًا برامج كشف التزييف: توجد أدوات مثل Deepware التي تحلل الفيديوهات وتكتشف علامات أو سمات التزييف، مثل حركة عين غريبة أو صوت غير طبيعي.

ثانيًا التحليل الدقيق: توجد أنظمة مثل Hive تفحص المحتوى وتقدم نتيجة حول ما إذا كان المحتوى مزيفًا أم لا، لكنها ليست مجانية وتحتاج إلى اتصال جيد لتعمل بكفاءة.

فيما يخص السياسات العامة والتشريعات، ومع انهيار البنية التحتية للمعلومات في ظل الحرب واستحالة بناء قاعدة بيانات، ما هو المنظور والمطلوب؟

الوضع في السودان صعب جدًا بسبب الحرب، لكن الإصلاح ليس مستحيلًا. لتحقيق نتيجة إيجابية، لا بد أن نبدأ من الصفر بجمع بيانات بسيطة، مثل استخدام تطبيقات على الموبايل لتصوير وتوثيق الأحداث. يمكن أيضًا وضع حلول مؤقتة مثل:

الحوسبة السحابية (Cloud Computing): لتخزين البيانات بدلًا من الخوادم المحلية.

قوانين الحماية: لا بد من سن قوانين لحماية البيانات لزيادة ثقة المؤسسات والمواطنين.

الشراكات الدولية : طلب المساعدة من المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو الشركات التقنية العالمية لتسريع العملية.

ما هي رؤيتك لتطوير المناهج الجامعية في السودان لتواكب الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟

لتكون الجامعات السودانية في المقدمة، لا بد من:

أولًا إضافة مقررات حديثة: يجب تدريس مقررات مثل علم البيانات باستخدام لغة البرمجة (Python)، تعلم الآلة، والأمن السيبراني.

ثانيًا التدريب العملي: وذلك من خلال عقد شراكات مع مؤسسات مثل أمازون أو جوجل أو هواوي حتى يتدرب الطلاب على مشاريع حقيقية.

ثالثًا التعليم عن بُعد: وذلك عن طريق استخدام منصات التعليم عن بعد لتمكين الطلاب في الأماكن البعيدة من الدراسة.

رابعًا الربط بالواقع: يجب أن تركز المناهج بعض الشيء على مشاكل السودان مثل الزراعة والصحة.

خامسًا تشجيع التعلم الذاتي: وذلك بتوفير دورات مجانية مستمرة للطلاب والعاملين.

ما هي أبرز أدوات الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر أو المجانية التي يمكن للطالب أو المؤسسة السودانية استخدامها اليوم، وما الدور المختلف الذي تؤديه كل أداة؟

توجد العديد من الأدوات مفتوحة المصدر أو المجانية، ومنها:

OpenAI Whisper: تستخدم لتحويل الكلام إلى نص (Speech-to-Text). يمكنها دعم اللهجة العامية السودانية بعد التدريب اللاحق، ويمكن استخدامها لتسجيل المحاضرات الصوتية وتحويلها إلى ملفات نصية لطلاب ذوي الإعاقة السمعية.

Hugging Face Transformers: عبارة عن مكتبة جاهزة لنماذج اللغة العربية مثل (AraBERT) لتحليل النصوص. يمكن الاستفادة منها في إنشاء روبوت (أسئلة-أجوبة) للإجابة على استفسارات المزارعين حول مكافحة الآفات.

Google Colab: عبارة عن بيئة برمجة Python سحابية مجانية توفر وحدات معالجة رسومية (GPU) لتحميل نماذج الذكاء الاصطناعي. تستخدم لتدريب النماذج، كمثال نموذج كشف أمراض أوراق القطن باستخدام صور ملتقطة بالهاتف الجوال.

QGIS + Semi-Automatic Classification Plugin: تستخدم لتحليل صور الأقمار الصناعية مجانًا. يمكن من خلالها رسم خرائط الرطوبة والتصحر للمشروعات الزراعية الصغيرة.

Orange Data Mining: أداة رسومية سحابية (Drag-and-Drop) تستخدم لتحليل البيانات دون كتابة أكواد برمجية. يمكن استخدامها لتحليل بيانات المرضى من مستشفى ريفي لاكتشاف أنماط سوء التغذية.

في زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة للمنطقة العربية، نالت الاتفاقيات التجارية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي النصيب الأكبر ضمن المشروعات المشتركة، كيف ترى مستقبل هذه الدول عقب تنفيذ هذه المشاريع المتفق عليها؟ وكيف ترى مستقبل الدول التي لا تملك الموارد اللازمة لتنفيذ مثل هذه المشروعات؟

الدول الغنية التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي ستكون في الصدارة وستشهد تطورًا كبيرًا في مجال الخدمات، وزيادة الكفاءة، وجذب الاستثمارات العالمية. أما الدول الفقيرة، إذا لم تستثمر في التكنولوجيا، ستزيد الفجوة مع الدول المتقدمة. لكن يوجد أمل في حال تم عقد شراكات مع دول أخرى، مع استغلال الشباب أصحاب الطاقات من خلال توفير التعليم الذاتي والدورات المجانية النوعية.

ما هي الفرص التي يمكن أن يستفيد منها السودان من خلال التعاون مع دول ومؤسسات دولية في هذه المجالات؟

السودان لديه فرص كبيرة إذا تم فتح الباب للتعاون، وذلك عبر:

نقل الخبرات: من خلال تأسيس شراكات مع مؤسسات رائدة مثل مايكروسوفت يمكن أن تساعد في بناء أنظمة ذكية.

التدريب: هناك منظمات عالمية مثل اليونسكو يمكن أن توفر دورات مجانية للشباب.

التمويل: بنوك التنمية العالمية والإقليمية أو الدول المانحة يمكن أن تدعم بناء بنية تحتية رقمية.

المشاريع المشتركة: يمكن تطوير تطبيقات الزراعة الذكية أو الصحة الإلكترونية بتمويل من الخارج.

ما هي نصيحتك للطلاب السودانيين الراغبين في دراسة تخصص الذكاء الاصطناعي؟

في تقديري، يمكن أن تكون البداية بسيطة: تعلم لغة برمجة مثل Python، فهي لغة سهلة ومتوفرة عبر الإنترنت. ولا بد من استغلال الإنترنت، حيث توجد دورات مجانية على منصات مثل Coursera و edX. كذلك، التواصل مع الآخرين من خلال الانضمام إلى مجتمعات تقنية على الإنترنت مثل Reddit أو Discord.
من المهم أن يفكر الطلاب في الشؤون المحلية، مثل محاولة معالجة مشاكل كالزراعة أو الصحة في السودان من خلال مشاريعهم. كما أوصيهم بعدم الاستسلام لأن المجال التقني يحتاج للصبر، لكن النتائج مبهرة وتستحق.
بشكل عام، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي مثل البذرة، لو زرعت بشكل صحيح في السودان، سيكون الحصاد مفيدًا للجميع. فرغم الحرب والتحديات، يمتلك الشباب السوداني طاقة كبيرة. إذا تم استثمارها بشكل سليم، وبالتعاون مع المحيط الإقليمي والدولي، يمكنهم تغيير المستقبل.