بنك السودان: "أكثر من 90% من صادر الذهب يصدر للامارات"

بورتسودان-سودان سكوب

في عالم اليوم الذي تزداد فيه العولمة تعقيدًا، لا يمكن فهم اقتصاد أي دولة بمعزل عن تحركات التجارية الخارجية. التقرير ربع السنوي لإحصاءات التجارة الخارجية ليس مجرد جداول وخطوط بيانية، بل هو انعكاس حي لواقع مجتمع بأكمله. التقرير الأخير الصادر عن بنك السودان المركزي حول إحصاءات التجارة الخارجية للربع الأول من عام 2025 يقدم صورة صادمة ومثيرة للقلق في آن واحد، تؤكد مرة أخرى أن الاقتصاد السوداني بات أسيرًا للأزمة السياسية التي تمزق أوصاله.

التقرير يكشف عن ديناميكيات تجارية تتفاقم في ظل الحرب. لقد شهدت الواردات ارتفاعًا هائلاً، حيث بلغت قيمتها 1.3 مليار دولار، في حين لم تتجاوز الصادرات 704 مليون دولار. هذا التباين الحاد أدى إلى عجز تجاري ضخم بلغ 609 مليون دولار، وهو رقم لا يمكن تجاهله. ليس من المستغرب أن يتزامن هذا العجز مع الانخفاض المستمر في قيمة الجنيه السوداني، حيث تعكس العملة المحلية ضعفًا بنيويًا ينهش في قيمتها يومًا بعد يوم.

على الرغم من هذا العجز، يظل الذهب هو المنقذ المؤقت للاقتصاد السوداني. فقد تصدر الذهب قائمة الصادرات غير النفطية، مسجلًا حوالي 450 مليون دولار، وهو ما يمثل حوالي 64% من إجمالي الصادرات. هذه الاعتمادية الكبيرة على سلعة واحدة تثير التساؤلات حول استدامة النموذج الاقتصادي. إنها قصة مألوفة في العديد من الدول التي تعتمد على مورد واحد، فكلما زادت الاعتمادية، زادت المخاطر المرتبطة بتقلبات الأسواق العالمية.

اللافت للنظر في هذا التقرير هو عمق العلاقة التجارية بين السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة. فالإمارات ليست مجرد شريك تجاري، بل هي الشريان الذي يمر عبره الجزء الأكبر من ثروة السودان. لقد استقبلت الإمارات وحدها أكثر من 90% من صادرات الذهب السوداني، بقيمة بلغت 396 مليون دولار. هذا التركز في الشراكة التجارية يجعل من السودان معرضًا بشكل كبير لأي تغيرات في علاقاته مع هذه الدولة، مما يفرض تحديًا استراتيجيًا على صناع القرار في بورتسودان.

ما يميز هذا التقرير هو أنه يترجم "تكلفة الحرب" إلى أرقام ملموسة. الواردات ليست مجرد سلع كمالية؛ إنها انعكاس للدمار الذي حل بالبنية التحتية المحلية. على سبيل المثال، استيراد السكر بقيمة 135 مليون دولار في الربع الأول يشير مباشرة إلى تدمير المصانع المحلية، مما أدى إلى نقص حاد في هذه السلعة الأساسية. نفس الشيء ينطبق على الزيادة في استيراد الأسمنت والحديد، والزيادة الوشيكة في فاتورة القمح، التي كانت البلاد في يوم من الأيام قادرة على إنتاجها بشكل جيد.

في نهاية المطاف، الأرقام لا تخطئ. هي تروي قصة اقتصاد يتآكل تدريجيًا. لكن هذه القصة ليست مجرد حكاية اقتصادية، بل هي قصة سياسية في جوهرها. التقرير يختتم بتحذير صريح: "التطورات السياسية هي العامل الحاسم في أداء الاقتصاد". هذا الاستنتاج ليس مجرد ملاحظة عابرة، بل هو حقيقة لا تقبل الجدل. لا يمكن لأي خطة اقتصادية أن تنجح في ظل نزيف سياسي مستمر. إن الطريق الوحيد للخروج من هذه الحلقة المفرغة هو الوصول إلى حل سياسي حقيقي يضع حدًا للحرب، ويعيد بناء الثقة في مؤسسات الدولة، ويمهّد الطريق لتعافٍ اقتصادي طال انتظاره. حتى ذلك الحين، ستظل أرقام العجز تتزايد، وسيدفع المواطن السوداني ثمنًا باهظًا للحرب التي لم يجنِ منها سوى الدمار والفقر.

رابط التقرير

https://sudanscope.com/wp-content/uploads/2025/08/تقرير-بنك-السودان-المركزي-الربع-الاول-للعام-2025.pdf