الكباشي أحمد عبدالوهاب

خلفية تاريخية موجزة

قبل إلغاء تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية أحادية الجانب عن السودان خلال حكومة الفترة الانتقالية (حكومة الثورة) في ديسمبر 2020م، كان السودان قد عانى من عزلة دولية وعقوبات متلاحقة امتدت لأكثر من عقدين.

بدأت هذه العزلة حين أُدرج السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب في أغسطس 1993م، بسبب سياسات نظام الجبهة الإسلامية بزعامة البشير. ومن أبرز أسباب الإدراج:

استضافة السودان لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة في تسعينيات القرن الماضي، ودعم الحركات الجهادية والمنظمات التي صنفت لاحقا بأنها منظمات ارهابية مثل حماس وحزب الله والجهاد الاسلامي وغيرها مثل حزب النهضة التونسي والجبهة الاسلامية للإنقاذ في الجزائر.

ثم أعقب تلك الأحداث محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الفاشلة في أديس أبابا عام 1995، والتي أثارت ردود فعل دولية حادة، وكذلك تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998، حيث اعتبرت الولايات المتحدة السودان متواطئاً.

وتوالت الحوادث ذات البعد الدولي التي اتهم نظام الجبهة بالضلوع فيها بالهجوم على المدمّرة الأمريكية "يو إس إس كول" في اليمن عام 2000م، وهو ما زاد من تشديد الرقابة الدولية على السودان. ليدفع السودانيون لاحقا أثمان باهظة جراء هذه الجرائم المتهورة حتى تتم تسويتها.

ونتيجة لذلك، فُرضت على السودان سلسلة من العقوبات من بينها:

أمريكية أحادية الجانب عام 1997، شملت حظر التجارة والاستثمار والتعاملات المالية مع السودان.

  • عقوبات من مجلس الأمن الدولي بموجب القرار 1054 والقرار 1070 على خلفية محاولة اغتيال مبارك، تضمنت حظر سفر مسؤولين سودانيين وتجميد أصولهم.
  • عقوبات إضافية في إطار مكافحة الإرهاب، وعقوبات مرتبطة بالنزاع في دارفور لاحقًا (بموجب القرار 1591 لسنة 2005م).

الانعكاسات الكارثية للعقوبات على السودان في عهد الجبهة الإسلامية

تسببت هذه العقوبات في عزل السودان اقتصادياً ومالياً، ومنعت الحكومة من الحصول على التمويل الخارجي أو إعادة جدولة الديون، بل عرقلت حتى المعاملات المصرفية الأساسية. ووفق صندوق النقد الدولي، فإن وجود السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب حرمه من الاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة

المثقلة بالديون (HIPC)، ولم يكن بمقدوره الحصول على قروض تجسيرية من المؤسسات متعددة الأطراف.

وقد أثرت العقوبات أيضاً في المجالات الاجتماعية والصحية والتعليمية، كما عطّلت التبادل التجاري ومنعت نقل التكنولوجيا، ما زاد من تراجع البنى التحتية وتفاقم الأزمات المعيشية.

مرحلة الانفراج.. جهود الحكومة الانتقالية 2019–2021

جاءت حكومة الثورة بعد سقوط نظام الجبهة الاسلامية برئاسة البشير، وتمكنت من خلال عمل دبلوماسي مكثف وحوار جاد مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق اختراقات هامة، منها:

رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020م.

استعادة العلاقات الطبيعية مع المؤسسات المالية الدولية، مما أدى إلى:

  • إعفاء جزئي من الديون.
  • حصول السودان على منح وقروض ميسرة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
  • دعم برنامج "ثمرات" لتخفيف آثار الإصلاح الاقتصادي على المواطنين.
  • بداية انفتاح السودان على الاستثمارات والتكنولوجيا الحديثة.

كانت تلك المرحلة تبشّر بفرصة تاريخية للانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية منفتحة على العالم، تسعى للإصلاح المؤسسي والتكامل مع الاقتصاد العالمي.

انتكاسة جديدة.. انقلاب 25 أكتوبر 2021م وعودة العزلة

إلا أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو قوض هذه المكاسب، وقطع الطريق أمام التحول الديمقراطي، مما أعاد السودان إلى حالة التوجس والعزلة الدولية، حيث جُمّدت المساعدات الدولية وعلّقت الولايات المتحدة والأوروبيون برامج التعاون مع السودان.

وجاءت الضربة القاصمة مع اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي دخلت البلاد مرة أخرى في نفق مظلم، تخللته الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، وتدمير البنية التحتية، وانهيار النظام الصحي والمالي، الأمر الذي زاد من عزلة السودان وأعاد إلى الأذهان سنوات الجبهة الإسلامية.

تشير معظم الدلائل إلى أن الإسلاميين سعوا لإشعال هذه الحرب، مستخدمين أدوات الدولة العميقة، لخلق حالة من الفوضى تسمح بعودتهم للسلطة بعد أن أسقطتهم ثورة ديسمبر المجيدة.

الوضع الحالي.. العقوبات الاقتصادية على السودان في يونيو 2025م

أعلنت الولايات المتحدة في مايو 2025 فرض عقوبات جديدة تختلف عن العقوبات السابقة التي تم رفعها خلال حكومة الثورة. هذه العقوبات جاءت على خلفية استخدام الأسلحة الكيميائية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وفقاً لبيانات وزارة الخزانة الأمريكية، وتتضمن:

أولاً: قيود على الصادرات الأمريكية

1. حظر تصدير منتجات وتقنيات أمريكية، خاصة تلك ذات الاستخدام المزدوج.

2. منع تصدير الشرائح الإلكترونية، البرمجيات، والمعدات الصناعية.

3. منع تصدير قطع غيار الطائرات والآلات.

4. إلغاء التراخيص التجارية القائمة.

ثانيًا: قيود على خطوط الائتمان الحكومية

1. منع بنك التصدير والاستيراد الأمريكي (Ex-Im Bank) من تمويل مشاريع بالسودان.

2. إلغاء ضمانات القروض المقدّمة للشركات الأمريكية العاملة في السودان.

وإن لم تكن العقوبات بحجم العقوبات السابقة (فهي لا تشمل تجميد أصول أو الحظر المصرفي المباشر)، إلا أنها تُضعف من قدرة السودان على الوصول إلى التمويل والتكنولوجيا وتزيد من التوجس الدولي تجاه التعامل المالي مع السودان.

التأثيرات المحتملة وفق التجارب الدولية

تشير تجارب دول مثل إيران، فنزويلا، وكوريا الشمالية إلى أن العقوبات الأمريكية تؤدي إلى:

  • انكماش اقتصادي واسع النطاق نتيجة ضعف الصادرات والاستثمارات.
  • تضخم مفرط وتراجع في سعر صرف العملة المحلية.
  • تعطيل القطاعات الحيوية مثل الطاقة والاتصالات والصحة نتيجة منع استيراد المعدات والتكنولوجيا.

وفي حالة السودان، من المرجّح أن تؤدي هذه العقوبات إلى:

اضطراب إضافي في السوق الموازية للعملات الأجنبية وانكماش في القطاع المصرفي بسبب خوف البنوك الأجنبية من العقوبات الثانوية، بالاضافة إلى زيادة التدهور في البيئة الاستثمارية العامة.

النظرة المستقبلية.. لا خلاص إلا بوقف الحرب

يواجه السودان الآن مفترق طرق تاريخي. استمرار الحرب يعني مزيداً من العزلة، العقوبات، والدمار. أما وقف الحرب واستئناف مسار التحول المدني الديمقراطي، فهو المخرج الوحيد لإعادة بناء الدولة، وفتح الباب أمام علاقات دولية متوازنة تقوم على المصالح المشتركة.

تقع على عاتق القوى المدنية الديمقراطية مسؤولية تاريخية لإيقاف الحرب، ومنع إعادة البلاد إلى عقود من العزلة والعقوبات. إعادة السودان إلى طريق التعافي يمر عبر:

  • استئناف التحول الديمقراطي.
  • تشكيل حكومة مدنية ذات مصداقية.
  • إصلاح المؤسسات.
  • إعادة الثقة مع المجتمع الدولي.
  • توجيه الموارد إلى الإعمار والتنمية بدل الحرب.

فلا يمكن الحديث عن نهضة اقتصادية أو اندماج خارجي في ظل استمرار الحرب.