د/ عزة مصطفى

امتحنت الفاشر إنسانية العالم أولًا بالحصار الطويل والجوع الذي وصل منتهاه، حتى صار الأطفال يأكلون "الأمباز"، وهو علف الحيوانات، ليسدوا به جوعهم ويسكتوا معدتهم الخاوية من الصراخ والألم. وامتحنت الفاشر أيضًا عجزنا نحن، أبناء البلد السودانيين، عن تقديم العون وسد الجوع، نحن الذين عُرِف أهلنا بالطعام القريب قبل الغريب. عجزنا عن توفير الحليب والكسرة، وعجزنا عن "تحرير البكاء"، فالبكاء لا يحرره إلا أهله، كما يقول المثل السوداني. لقد عجز الأهل عن فعل واجبهم بسبب ظروف الحصار ورغبة المتحاصر والمحاصر في تحقيق النصر حتى لو كان على حساب أناس أبرياء لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل.
لقد صمت العالم عن الفاشر، وهذا الصمت كشف زيف جميع المعايير والشعارات البراقة عن الكرامة الإنسانية وضرورة العيش بآدمية.
زرت دارفور في فترات متباعدة قبل الحرب، وهناك عرفت معنى أن تُكرَم كضيف وزائر. الكرم هناك ليس فقط في ما يُقدَّم من أصناف الطعام والشراب، بل في طريقة الترحيب والاحتفال الحقيقي بالزوار وخدمتهم. كيف لأناس طبعهم الإكرام والاحتفاء بمن يحل عليهم ضيفًا أن يكون الجوع مصيرهم؟ أفكر في الألم النفسي الذي ينتاب من كان يكرم ويذبح لضيفه من الأنعام ما ملكت يداه، ثم يصبح اليوم مضطرًا لأكل الأمباز كوجبة ثابتة يسد بها جوعه. هذا الجوع الذي لم يعرفه إلا مؤخرًا بسبب "شكلة" فُرضت عليه، قضت على الأخضر واليابس، بل وقضت قبلها على كرامتهم وإنسانيتهم. لقد صادرت هذه "الشكلة" أحلام وأماني أطفال كان أبسط همهم هو العيش بسلام وطمأنينة كما يعيش أقرانهم في المناطق الأخرى.
إن التجاهل المقصود لما يحدث في مدينة الفاشر وغض الطرف عنها هو دليل واضح وصريح على العجز الأخلاقي والقيمي، وقلة الحيلة.
لقد عجزت الأصوات عن الصراخ والبكاء عاليًا على ما يحدث في فاشر السلطان، الفاشر التي كانت ترسل كسوتها لبيت الله الحرام بعد أن كفت وأشبعت من يسكنها٬ ها هي اليوم تبحث عمّن يكسي عورة إنسانها ويرزقه لقمة تنزل كصدقة حقيقية في بطن جائع تقرّحت معدته من الجوع، وعلى أرض ملأتها الأوساخ.
عذرًا يا سلطان علي دينار، لم تعد فاشرك قادرة على العطاء كما كانت، ليس بسبب بخل إنسانها، بل بسبب جور الزمان وظلم ذوي القربى. القريب الذي لم يفكر في مدينة شهد لها التاريخ وعُرف مجدها. هذا القريب الذي يرى تحت قدميه باحثًا عن نصرٍ سيكون في حال تحققه خسارة فاضحة وهزيمة لسودانيته، بل وهزيمة لإنسانيته التي تراجعت بعد أن غطت عليها غشاوة سوداء وعتمة رؤية تسعى لإرضاء نفس أمّارة تتجاهل الموت ورائحته خارج المدينة التي تنزف دمًا، وداخلها الذي يموت جوعًا. ورغم كل ذلك، فشل هذا الظلم في هزيمة كبرياء إنسان تعوّد أن يعطي دون منٍّ أو أذى، ووقف شامخًا متعاليًا على مصائبه، يحرسُه تاريخ وحاضر يشهدان على عظمته وكرمه، ومن الجانب الآخر، يشهدان على سقوط وفشل من أراد كسره وتحطيمه.
أي نصر يُبتغى على جثث وأشلاء أناس لم يعرفوا غير ذكر الله وصلوات يتضرعون بها إلى خالقهم أن يمنحهم الستر والعفو والرضا؟ أي نصر يُراد من تجويع أطفال يرجى منهم أن يكونوا عمادا لبلاد أنهكتها الحروب وفرقت بين أهلها المطامع؟ أي نصر يُعلَن، ولمن يُعلَن، وفيما يُعلَن؟ أي مكسب يُراد تحقيقه في أرضٍ خواء قد تصبح خالية من "نفّاخ المحبة"، تلك المحبة التي طالما كُتب عنها أنها سمة هذه البلاد؟ بلاد تتحقق فيها أبجديات الحياة الكريمة والعيش بآدمية، بلاد أنهكتها حروب وصراعات أُهدرت معها كل القيم الإنسانية. أي نصر بالله عليكم؟