المهندس/ مازن الأسعدي

منذ نشأة الدولة السودانية الحديثة مروراً بالاستقلال والأعوام التي تلته، لم يكن السودانٌ حديثاً أبداً، حيث غاب عنه وجه الحداثة الحديدي، الصناعة. وكأي بلدٍ يرزح تحت أكوام من الديكتاتوريات المتعاقبة والحروب الطويلة، لم يكن حظ الآلة في السودان أفضل حالاً من حظ البلاد نفسها، عدا من إشراقاتٍ محدودة وضيقة، لم تدخل البلاد عصور النهضة، بل أبقتها أسيرةً للفقر والاقتصاد التقليدي والاستيراد. ففي الشهور التي سبقت الحرب، كانت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج الإجمالي المحلي حسب التقديرات الرسمية لا تتخطى الـ 17%، وللمقارنة، ففي الجارة تشاد تبلغ نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي ما يقارب الـ 45%!
مع اندلاع الحرب في السودان وانتشارها غير المسبوق في كل ربوع البلاد، تدمرت البنية الصناعية بشكل شبه كلي، ففي العاصمة التي تحتضن أغلب المصانع التحويلية، تتحدث التقارير عن أن التدمير الكلي أو الجزئي طال 90% من الصناعات، ولم تسلم محطات الكهرباء والبنى التحتية والإنسان نفسه، فقد شهدت البلاد أكبر موجة نزوح ولجوء في العالم، آثر الكثيرون منهم اللجوء للأسواق القريبة وعرض إمكانياتهم الفنية والإدارية في أسواق الخليج خاصةً، مما وفر ملاذاً آمناً للسودانيين من أصحاب الخبرات المرتبطة بالقطاع الصناعي، فقد السودان تلك الكفاءات التي راكمت خبراتها في ضجيج ورش السودان ومصانعه وتحدياته، ولن يكون بطبيعة الحال تعويضهم سهلاً، فالغالب منهم، بحكم المسؤوليات والطموح فقده السودان وربما للأبد.
ففي قطاع النفط الحيوي، شكلت مصفاة الجيلي، الواقعة شمال مدينة بحري، عموداً لصناعة النفط في السودان وقلبها النابض، فالمصفاة التي شُيِدت قبل ربع قرنٍ من الزمان بطاقة انتاجية 100000 برميل في اليوم كانت ساحة لعدد من المعارك الشرسة منذ سيطرة الدعم السريع عليها في بداية الحرب وحتى سيطرة الجيش عليها في يناير الماضي، لم تخلو تلك المعارك من التدوين والقصف الجوي الذي دمرها بشكل كلي، مما ينذر باستحالة استعادة نشاطها في القريب العاجل. ولم تكن المصفاة هي الوحيدة في قطاع النفط والغار التي تأثرت بالمعارك، فالحقول في مناطق غرب كردفان والخزانات الاستراتيجية ببورتسودان التي هاجمها الدعم السريع قبل أشهر تضع أدلة أخرى بأن قطاع النفط خرج ولن يعود قريباً. لكن الغائب الأكبر سيكون بلا شك آلاف المهندسين والعمال المهرة الذي فقدوا وظائفهم وطفقوا يبحثون عن بدائل أخرى تقيهم العوز والفاقة.
ولم يكن قطاع الكهرباء بأوفر حظاً من قطاع النفط، فالقطاع الذي كان ضعيفاً ومحدوداً وبعيداً جداً من سد حاجة البلاد من الكهرباء قبل الحرب، تقلصت طاقته الإنتاجية بالهجمات المتكررة على المحطات التحويلية في مروي وأم دباكر وأمدرمان، بالإضافة للتخريب الممنهج الذي طال المحولات والكوابل وأعمدة الكهرباء، قلصت هذه الجرائم والتعديات من وصول الكهرباء للناس، ففي بعض المناطق، غابت الكهرباء لأشهر، مخلفةً آثاراً مدمرة على القطاعين الصحي والزراعي، وحتى مع غياب الاستهلاك الصناعي، فالعقبات اللوجستية القائمة حدت بالكثيرين البحث عن بدائل الطاقة المستدامة خارج الشبكة القومية، ما يعد تغييراً جوهرياً في صناعة الطاقة في السودان، ومع ذلك يظل التحدي قائماً فاستعادة النشاط الصناعي في السودان يحتاج لقدرات إنتاجية في مجال النفط تتجاوز قدراته ما قبل الحرب.

وبالحديث عن مستقبل الصناعة في السودان، فعديد التحديات أطلت برأسها بسبب الحرب، فالدمار الشامل سالف الذكر لا يعد شيئا يذكر بالمقارنة مع كارثة استمرار الحرب نفسها وأثرها التدميري المباشر على الإنسان والبيئة، فالبشر ليسوا وحدهم الذين غادروا السودان، لكن التمويل والاستثمار والثقة، كلها غادرت مكرهةً، فبعد أن كانت الآمال مشرعةً في الفترة الانتقالية، أوصد العالم أبوابه أمام السودان على إثر انقلاب الـ 25 من أكتوبر، الذي اصطُلح على تسميته بانقلاب "البرهان -حميدتي"، والمؤسف أيضاً هو غياب أي أفقٍ أو أمل، في الوقت الحالي بقرب الوصول لحل سلمي للنزاع القائم، فالتدمير الذي طال قطاع الصناعة تسرب أيضا للقطاعات الأخرى وعلى رأسها الزراعة والصحة، مما ينبئ بكوارث عدة، لا سبيل للنجاة منها إلا باستعجال وقف الحرب ومعالجة آثرها الكارثية في أقرب فرصة. أما استعادة النشاط الاقتصادي فالأجدى مساءلة وضعه المائل قبل الحرب، ما الذي قادنا إليه، وكيفية تفاديه في ضحى الميلاد الجديد، لكي نصبح أمةً قادرة على النهوض لابد من طرح الأسئلة الصحيحة واستنتاج الاستراتيجيات الصناعية طويلة المدى المعتمدة على انتاجنا الزراعي ومواردنا المعدنية، مما سيشكل فرصةً لملايين السودانيين من استعادة حياتهم وتلبية حاجاتهم، كانت الحكومة الانتقالية قد قطعت أشواطاً في الإجابة على هذه الأسئلة في مؤتمر باريس وأحزمة حمدوك الخمسة، فكم من الوقت سنحتاج للعودة من حافة النجاة لأفق البناء.