تستضيف اليوم، منصة "سودان سكوب" شخصية أكاديمية بارزة وناشطة حقوقية ملتزمة، البروفيسور / زحل محمد الأمين، أستاذة القانون الدستوري والدولي بجامعة الزعيم الأزهري، وتحمل درجتي دكتوراة في القانون الدستوري والقانون الدولي وحقوق الإنسان. تدربت في أعرق المؤسسات العالمية في مجالات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، دراسات السلام، والتحكيم والوساطة.
تُعرف البروفيسور زحل بنشاطها الفاعل في حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وهي عضو في المرصد السوداني لحقوق الإنسان والمنظمة العربية للقانون الدستوري، وشاركت في حملات مهمة مثل "نساء ضد الظلم" و"معًا لمحاربة الاغتصاب والعنف الجنسي".
لها العديد من المؤلفات والأوراق العلمية المنشورة، وشاركت كخبيرة في وضع مسودة الدستور الانتقالي 2022 وأجندة النساء في الدستور القادم، بالإضافة إلى إسهاماتها في تشريعات واتفاقيات سلام عديدة.
يسعدنا أن تكون معنا اليوم لمناقشة قضايا بالغة الأهمية تتعلق بمستقبل السودان ودور المرأة فيه.
بداية ما هي التحديات التي واجهت النساء عند اندلاع الحرب؟
عند اندلاع الحرب في عام 2023، واجهت النساء العديد من التحديات لأسباب مختلفة. أولًا، كانت الحرب مفاجئة، ولم يكن هناك تصور بأن المشاحنات قد تؤدي إلى حرب شاملة، أو تصور للانتهاكات الجسيمة التي وقعت تبعاتها على النساء تحديدًا.
لقد وقع العبء الأكبر في الحرب على النساء العاملات في القطاع غير المنظم، حيث أن أغلبهن يعلن أسرهن وأطفالهن. بعد اندلاع الحرب، توقفت الحياة تمامًا، وتحديدًا في الخرطوم، فظهرت بسرعة كبيرة تبعات الحرب على هذه الفئة.
والأسوأ من ذلك، استُخدمت أجساد النساء كواحدة من أدوات هذه الحرب؛ فقد تعرضت النساء للاغتصاب الوحشي، والحمل القسري، والتهجير القسري، والابتزاز والاستغلال في الأعمال (كالغسيل والطبخ والتنظيف للجنود، بالإضافة إلى الاغتصاب). وقد عزز ذلك غياب أجهزة القانون، مما مكن مرتكبي الانتهاكات ضد النساء من التمادي، لأن النساء لم يكن لديهن ملاذ اجتماعي أو أسري، فقد قُتل الآباء والأبناء أو هُددوا بالسلاح، وكثير من النساء واجهن انتهاكات جنسية مقابل توفير الغذاء لأسرهن.
لقد مكن كل ذلك غياب الملاذ القانوني والعدلي والأمني، مما عرض النساء للاستغلال الاقتصادي والجنسي، ولا تزال تبعات هذه الانتهاكات ماثلة حتى الآن في السودان.
إلى أي مدى نجح الحراك النسوي في التعبير عن قضايا النساء في هذه الحرب؟
مع بداية الحرب وبداية الانتهاكات، صاحب ذلك حراك نسوي قوي جدًا، سواء على مستوى المجتمعات المحلية، حيث سارعت منظمات المجتمع المدني للتصدي لهذه التحديات والانتهاكات عن طريق توفير ملاذات آمنة للناجيات، وتقديم البروتوكولات العلاجية لتوفير الحماية من الأمراض المنقولة جنسيًا ومن الحمل القسري، والدعم النفسي للناجيات رغم محدوديته مع الحرب، بالإضافة إلى رصد وتوثيق الانتهاكات.
كذلك، على المستوى الإقليمي والدولي، تحركت منظمات المجتمع المدني والجهود الذاتية والمبادرات النسوية في رصد وتسجيل الانتهاكات، ونقل الناجيات إلى مناطق آمنة. وقد صاحب ذلك إشكاليات اجتماعية واقتصادية وسياسية في ظل مجتمع محافظ. وكان للمجتمع النسوي دور كبير في تسليط الضوء على هذه الانتهاكات، وتسليط الضوء على مرتكبيها لكي لا يتمكنوا من الإفلات من العقاب على المستويين الداخلي والدولي.
تصورك لمستوى فعالية مشاركة النساء السودانيات في رسم مستقبل السودان؟
إن مشاركة المرأة السودانية في رسم مستقبل السودان مسألة في غاية الأهمية والأساسية. فالنساء يشكلن جزءًا أصيلًا وكبيرًا من المجتمع، ليس فقط كنسبة من السكان، بل لدورهن المحوري عبر الحقب المختلفة في تشكيل السياسات. لا يقتصر هذا التشكيل على المستوى السياسي فحسب، بل يمتد ليشمل بناء العادات والتقاليد الاجتماعية التي تُثمر عن نشوء مجتمعات قائمة على أسس معينة. لطالما كانت المرأة السودانية جزءًا لا يتجزأ من هذا التشكيل.
وكما أوضحت سابقًا، غالبًا ما تتحمل المرأة السودانية العبء الاقتصادي للأسرة، سواء من خلال عملها في الزراعة، أو في القطاعات الحكومية والأهلية، أو حتى في المهن الهامشية. وهذا الجانب بالنسبة لي يمثل مكونًا أساسيًا في تشكيل الاقتصاد السياسي، وهو ما يعكس حجم مساهمة النساء في الاقتصاد المستقبلي للبلاد.
شاركت المرأة السودانية أيضًا بفاعلية منذ حقبة ما بعد الاستقلال، وكانت أول برلمانية عربية، مما يدل على وعي نسائي مبكر. فقد بدأ تعليم النساء مبكرًا، بل وحتى خارج العاصمة، مما أدى إلى انتشار الوعي بين النساء في مناطق مختلفة. وحتى إن لم نحسب ذلك على مستوى التعليم الأكاديمي، فيمكننا احتسابه على مستوى المساهمة في بناء المجتمعات. وبالتالي، يمكن أن يكون للمرأة السودانية دور كبير جدًا في صياغة السياسات أو وجودها في مؤسسات الدولة التي تساهم في بناء السودان مستقبلًا.
ولكن، كان هناك دائمًا قصور، سواء على المستوى الاجتماعي بسبب طبيعة المجتمع وتركيبته التي قد ترفض القيادة النسائية، أو على مستوى التشريعات، أو حتى على مستوى الأيديولوجيا بشكل كبير. فقد سيطرت أيديولوجية قائمة على أن وجود المرأة كقائدة أو رئيسة أو إمامة غير مقبول في قيادة المجتمعات. هذه المسألة في بعض الأحيان يكون أساسها اجتماعيًا وليس دينيًا، ويتم قولبتها في قالب ديني لحرمان النساء من حقوقهن. هذه المسألة تتطلب جهدًا لمواجهتها، ليكون هناك دور أكبر للنساء في صناعة مستقبل السودان.
بالنسبة لقضايا الاغتصاب التي أثيرت بشدة في هذه الحرب كيف يمكن تحقيق العدالة في ظل الخصوصية الثقافية التي تتعاطى من خلالها المجتمعات السودانية هذا النوع من القضايا؟
لقد برزت قضايا الاغتصاب والعنف الجنسي بشدة خلال هذه الحرب، وشكلت انتهاكات عنيفة تعرضت لها النساء. لم تكن هذه المسألة سرية، بل كانت منتشرة على نطاق واسع في المناطق التي تواجد فيها الدعم السريع.
الاغتصاب هو جريمة جنائية يعاقب عليها القانون، سواء كان القانون الجنائي السوداني أو أي قانون آخر في العالم. بل يمكن إحالة مرتكبيه إلى العدالة الجنائية الدولية، باعتبار أن الاغتصاب قد يُستخدم كسلاح في الحرب لإذلال النساء أو كأداة للإبادة الجماعية لتغيير سمات مجتمعات معينة. بالتالي، يُعد الاغتصاب جريمة تستوجب أشد العقوبات.
الخصوصية الثقافية وتحديات التعامل مع الضحايا
لكن كما أشرت في سؤالك حول الخصوصية الثقافية التي تتعامل بها المجتمعات السودانية مع هذا النوع من القضايا، هناك بالفعل إشكالية مجتمعية في طبيعة المجتمع السوداني وعدم قبوله للاغتصاب، حتى لو وقع كجريمة قسرية، أو في أي نطاق، سواء داخل العائلة نفسها، أو البيت، أو القرية، أو المدينة، أو في ظل نزاع مسلح كما حدث في السودان.
المجتمع السوداني يرفض هذه المسألة تمامًا، ويحاول حتى التستر على الجريمة وعلى الجاني. إن المقياس الاجتماعي في بعض المجتمعات السودانية أقوى من المقياس القانوني والأخلاقي، لدرجة قد يتسامح مع الجاني ولا يتسامح مع الضحية. هذه مسألة كبيرة ومهمة تحتاج إلى وقفة جادة، وإلى أن تمتد يد العدالة لتطال كل من استخدم الاغتصاب كسلاح في هذه الحرب.
لحسن الحظ، هناك العديد من الحالات الموثقة من قبل منظمات المجتمع المدني والمجموعات المتضررة نفسها. ولكن هذه المسألة قد تصطدم بصمت المجتمع، ومع ذلك، يجب مواجهتها حتى في حالات محددة لتكتسب صفة الردع وعدم التكرار.
الحاجة إلى العدالة وإعادة بناء المجتمع
لن يتغير هذا الواقع بين عشية وضحاها، فهو واقع يتطلب عملًا كبيرًا من قبل المجتمع المدني، وتوعية، وتعليمًا. هناك جوانب في المجتمعات السودانية بعيدة عن هذه المفاهيم، وربما تكون هذه الحرب قد عمقت المشكلات إلى حد كبير، وقد تمتد آثارها لفترة طويلة.
هذه المسألة مؤسفة، ولكن إذا تمكنا من تحقيق أي نوع من العدالة، سواء الجنائية أو الانتقالية، وتم التحقيق في هذه الجرائم، فهناك نساء كثيرات مستعدات للشهادة بما تعرضن له. أحيانًا، بسبب عدم سرعة الوصول إلى إجهاض آمن أو علاج مناسب، وصلت بعض المغتصبات إلى مراحل اضطررن فيها لعبور الحدود بحمل غير مرغوب فيه، وبعضهن أنجبن.
هناك تبعات لهذه الجرائم، ومن المؤكد أن عددًا من النساء، حتى لو كان ذلك ضد إرادة المجتمع، سيصلن إلى العدالة لينصفن مما تعرضن له. آمل أن تتحقق العدالة، وبالتأكيد لن تكون عدالة كاملة أو مكتملة أو تغطي كل الحالات، لكننا نحتاجها أيضًا لإعادة ترميم المجتمع وبناء مجتمع معافى، ولإرساء قواعد العدالة والإنصاف.
في حال تم التوصل لسلام ما أهم التشريعات الخاصة بقضايا النساء التي يجب أن تتضمنها أي وثيقة دستورية قادمة؟
إذا تم التوصل لعملية سلام فإن التشريعات الخاصة بقضايا النساء التي يجب تضمينها في وثيقة دستورية تعتبر مسألة واضحة. وهناك قواعد أخلاقية واجتماعية ثابتة وقانونية تحتاج لمعالجات في الإطار القانوني. وقضية التحرش والاغتصاب وترويع النساء وإعطاء كامل الحقوق للنساء كلها مسائل متضمنة في كل الوثائق وموجودة في أي وثيقة دستورية وجزء من حقوق الإنسان بصفة عامة، كجزء من خصوصية حقوق النساء بصفة خاصة، تغطي كل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للنساء.
الوثيقة الدستورية الشاملة يجب أن تحتوي على الحقوق والحريات، وهي تعتبر من المسائل الأساسية. لذا فإن كل المشكلة تكمن في تطبيق الوثيقة نفسها وشموليتها والآليات التي تحتاج إليها الوثيقة. مثل المفوضيات أو البنيان الاجتماعي القوي الذي يرفض أي سلوكيات تنتقص من حقوق النساء، مثل وجود النساء في نسبة التعليم والمؤسسات السياسية والاقتصادية، وتمثيلهن في إدارات قوية وليس هامشية.
بعد اندلاع الحرب تضاعفت أعداد المليشيات في السودان مما ينعكس سلبًا على استقرار البلاد في المستقبل. هل هناك أي تصور لنقاط دستورية تحسم مسألة تعدد الجيوش؟
بالنسبة لتضاعف الحركات المسلحة بعد اندلاع الحرب، تعتبر إحدى إفرازات الحرب من تعدد المليشيات وتعدد التشكيلات العسكرية خارج نطاق القوات النظامية. وتعتبر مسألة خطيرة في المستقبل خاصة بعد انتشار السلاح بصورة كثيفة. وأصبحت كل مجموعة لديها انتماءات على أسس قبلية جهوية ومصلحية انطوت تحت فصيل مسلح من أجل كسب حقوق التفاوض ونيل الحقوق. كل هذه مسائل تؤدي إلى تفتيت الدولة وانعدام الأمن مما يحد من صعوبة بناء مؤسسات دولة قوية قائمة على احترام القانون، في ظل وجود أشخاص يحملون السلاح من أجل تنفيذ القانون بالقوة.
وهي مسألة تحتاج إلى انتباه وتدخل سريع من أجل القضاء على هذه التشكيلات مهما كانت المبررات. كما أن الحرب الحالية أعطت الحق لكل الحركات المسلحة أن تفرز لنفسها موقعًا من أجل خوض الحرب باسم معركة الكرامة التي تدعي أنها من أجل استرداد وإعادة هيبتها. ولكن في الجانب الآخر تساعد في إضعاف هيبة الدولة.
وهي الآن (الأشخاص الذين ينتمون للحركات المسلحة) يقومون بأعمال وحشية وممارسات خارج نطاق القانون مما وضع المواطن في حيرة من أمره بمعرفة من هو النظامي وغير النظامي، ومن الذي يخضع لسيطرة الدولة. أصبحوا في أحيان كثيرة يمارسون الإرهاب على المواطنين وارتكاب أفعال إجرامية، كل هذه الممارسات قد تفرز وضعًا سيئًا جدًا وتحول البلد إلى فوضى يصعب السيطرة عليها حتى من قبل الجيش النظامي نفسه.
ينبغي الإسراع في جمع السلاح المنتشر بالإضافة إلى تقنين وجود الحركات المسلحة داخل القوات النظامية، ومن ثم إعادة ترتيبات مرحلة الدمج والتسريح. من غير ذلك لا يمكن للمواطن السوداني أن يعيش في أمن وأمان، كل ذلك يتم عبر وثيقة دستورية متعارف عليها. بما أن الجيش يقود حكومة الأمر الواقع، يجب أن يلتفت إلى هذه المسائل الخطيرة حتى لا يتحول المجتمع السوداني من مجتمع مسالم إلى مجتمع مليشيات عسكرية. بدأت الآن جرائم كثيرة واغتيالات في أوساط المجتمع على أسس عنصرية هدفها الانتقام، وهي لم تكن موجودة من قبل في المجتمع السوداني، حتى لو حدثت كان مقدورًا عليها بقوة القانون ولكن حاليًا هيبة القانون انتقصت.
يتحدث العديد من الساسة السودانيين وخبراء القانون والناشطين الاجتماعيين عن أهمية اعتماد نظام "العدالة الانتقالية" كحل لمستقبل السلام في السودان، برأيك هل من الممكن أن تكون العدالة الانتقالية أساسًا لسلام مستدام؟
إن الحديث عن العدالة الانتقالية ومدى اعتبارها أساسًا لسلام مستدام يقودنا إلى استعراض ماهيتها وأدواتها ومدى حاجتنا إليها، وهل يمكن أن نطبق تجربة حدثت في بلد آخر لدينا في السودان.
تُعد العدالة الانتقالية مهمة جدًا، وعادة ما تُطبق في أعقاب الحروب، والانقلابات، والأوضاع السياسية التي تُحدث تغيرات في نظام الحكم أو تُفضي إلى حرب أهلية. في هذه الظروف، يحتاج الناس إلى عملية عدلية مختلفة، تُعرف بـ"العدالة الانتقالية"، تستخدم أدوات معينة تختلف عن العدالة الجنائية العادية التي تمارسها المحاكم استنادًا إلى التشريعات الجنائية التقليدية الموجودة في الدولة.
العدالة الانتقالية لا تعني غياب العدالة الجنائية أو المحاكم، بل هي عملية تُعرّف نفسها بأنها عدالة تُنفذ من خلال إجراءات معينة. تشمل هذه الإجراءات: الحقيقة، المصالحة، التعويض، جبر الضرر، والتحويل إلى المحاكم. تتم العدالة الانتقالية بإجراءات معينة لـرتق النسيج الاجتماعي أو تهدئة النفوس بعد صراعات دامية تعرض فيها الناس لخسائر في الأرواح والممتلكات وتدمير لمجتمعاتهم.
هنا يبرز صوت العقل وسط الدمار، يدعو إلى رتق النسيج الاجتماعي وجبر الضرر الذي نجم عن هذا الصراع، سواء عن طريق التعويض أو عن طريق الاعتراف بالجرائم، وهو ما يُعرف بـ"الحقيقة والمصالحة". يتم عقد مصالحات تشمل عددًا كبيرًا من الناس وفقًا لإجراءات أو عملية معينة تختلف من مجتمع لآخر، ومن عادات لتقاليد، ومن مقبولية عند مجتمع عما هو مقبول عند مجتمع آخر. فالأشخاص الذين يمارسون هذا النوع من العدالة ويضطلعون بهذه المهمة يضعون عددًا من القواعد والرؤى والأمثلة التي يرون أنها تلائم هذا المجتمع.
من ضمن هذه الإجراءات عدم الإفلات من العقاب. ففي بعض الجرائم البشعة التي حدثت، قد لا يقبل الأطراف الذين انتُهكت حقوقهم مجرد قول الحقيقة من الطرف الآخر أو محاولة عقد المصالحة أو التعويض، بل يطالبون بالذهاب إلى المحاكم في إطار العدالة الانتقالية، وهذا جائز أيضًا. المهم هو وجود عملية كاملة ومكتملة تُعيد للمجتمع نظامه عبر عدالة بشكل مختلف، وهي العدالة الانتقالية؛ أي عملية تناسب هذا البلد وتناسب سكانه ومتطلبات العدالة فيه.
نحن في السودان بالتأكيد سنحتاج إلى هذا النوع من الممارسة، وهي العدالة الانتقالية، لإعادة بناء المجتمع من جديد، ونشر السلام، وإعادة المجتمع إلى ما قبل الحرب أو النزاع بأسس جديدة تمنع نشوء نزاعات في المستقبل وتجعل أفراد المجتمع يعيشون في سلام. إن هذه المسألة دائمًا ما تكون عملية طويلة جدًا وتتطلب وقتًا وإجراءات وقبولًا من المجتمع. ونأمل أن تكون هذه من الأدوات التي يُلجأ إليها لدرء آثار الحرب ونشر السلام في السودان.
تقترن العدالة الانتقالية في أدبيات القانون وبعض التجارب الدولية بالمصالحة. ولكن ما هو الأساس القانوني للمصالحة في التجارب المماثلة؟
في العدالة الانتقالية، لا توجد تجربة بعينها تُطبق في دولة وتصلح بكاملها لدولة أخرى. كل بلد لديه تجاربه وتاريخه ونظامه الاجتماعي والعدلي وأسس العدالة الخاصة به. والتجارب الإنسانية مختلفة، وأحيانًا تكون متشابهة.
إن العدالة الانتقالية هي عملية لديها عدد من العناصر، أحدها المصالحة. تقوم المصالحة على عقد صلح بين المتضررين من المجتمع ومرتكبي الانتهاكات. يعتمد الصلح على اعتراف المنتهكين واعتذارهم. قد يكون الصلح بمقابل أو بدون مقابل. ولكن هناك مسائل قد لا يُقبل فيها الصلح، مثل الانتهاكات الجسدية والجنسية وفقدان الأشخاص والأعضاء. لذلك، قد نحتاج لتجارب أخرى تختلف بالضرورة من دولة لأخرى حسب طبيعة الدولة وما هو مقبول فيها. في المحصلة النهائية، هي تجارب إنسانية قد تتشابه وقد تكون هناك مشتركات، ولكن لا شيء ثابت.
هل يمكن نقل التجارب الأخرى كما هي أم أن الأمر مختلف ويتطلب خلق نموذج جديد ليناسب السودان؟
كل بلد لديه النموذج الذي يناسبه حسب التركيبة السكانية، والمجتمعات المختلفة التي يتألف منها، وحجم الوعي، ومستوى التعليم، والمرارات التي نتجت عن هذه الانتهاكات. وهل المجتمع لديه الاستعداد للتنازل عما أصابه أم لا، وإلى أي مدى يمكن أن يتنازل؟
كل مجتمع يخلق تجربته الخاصة. وهناك تجارب كثيرة جدًا في العدالة الانتقالية. إذا نظرنا إلى أفريقيا، نجد نماذج عدة للعدالة الانتقالية في رواندا وتنزانيا والمغرب وأماكن مختلفة. يمكن لنا أخذ ما يلائم مجتمعنا والبناء عليه وفقًا لطبيعته والأسس القائمة عليها.
بناءً على خبراتك المهنية وتخصصك الأكاديمي، كيف يمكن ربط مسار العدالة بمسار السلام في السودان؟
في الأساس، مسار السلام قائم على أسس من العدالة. هذه العلاقة طردية؛ فليس هناك سلام بدون عدالة، وليس هناك عدالة بدون سلام. هما مفاهيم مكملة لبعضها البعض.
يقوم السلام على أسس من العدالة، وعلى أسس من التشريعات المنصفة، وعلى أسس من قبول الآخر، وعلى أسس من توزيع الثروات بصورة عادلة، وعلى أسس من تشريعات عدلية تحقق السلام الاجتماعي والقانوني. يتم ذلك عبر تطبيق تشريعات تراعي قيم المجتمعات وتراعي الإنصاف داخل هذه المجتمعات، وتراعي منع الانتهاكات، وعدم الإفلات من العقاب، والمساواة، والعدالة المؤسسية، وتوزيع الفرص، وتراعي الاختصاص للذين يقودون أسس هذا المجتمع. هذا من ناحية متطلبات السلام داخل المجتمع.
أما العدالة، فهي مهمة جدًا. فالتشريعات داخل الدولة إذا كانت قائمة على أسس من العدالة والمساواة والإنصاف والرسوخ، فإن القوانين ترسخ من التطبيق السليم لها وتكون سمة للمجتمع الذي تسود فيه العدالة. وهو المجتمع الذي تكون فيه القوانين لديها القدرة على محاربة السلبيات والفساد والرشوة وانتهاك حقوق الإنسان.
كما تساهم في نشر قيم الوعي وحقوق الإنسان وأسس السلام داخل المجتمع، وتوجيهه إيجابيًا ليحقق الاستقرار والأمن والسلام. وبذلك يصبح هذا المجتمع معافى، وهذا يخدمه تشريعات رسمية وقوانين راسخة تراعي استقرار هذا المجتمع وتراعي العدالة داخله.