بورتسودان-سودان سكوب
كأنها مرآة تعكس أوجاع السودان المستمرة، تتحول (بورتسودان) ، هذه المدينة الحيوية التي كانت شريان الحياة الاقتصادي وميناء البلاد، إلى بؤرة توترات تتفاقم يومًا بعد يوم. لم يعد الميناء مكانًا لالتقاء السفن وحركة بضائع الصادر والوارد، بل باتت نقطة إلتقاء لجماعات مسلحة متعددة، صورة مصغرة لتحديات أوسع تمزق نسيج الأمة. هنا، حيث يتضاءل الأمل في الاستقرار أمام واقع الاحتكاكات المتواصلة بين سلطات غير موحدة ومواطنين منهكين، بعضهم أصلاً فر إلى المدينة الساحلية تاركًا وراءه منزله هربًا من صوت البنادق في مدينته.
تكتظ بورتسودان اليوم بما يمكن وصفه بحامية عسكرية عملاقة. تقديرات غير رسمية تشير إلى أن عدد القوات المتمركزة في هذه العاصمة الإدارية المؤقتة قد يبلغ عشرات الآلاف. هذه القوات ليست هي الجيش السوداني الرسمي (القوات المسلحة)، بل هي في معظمها تشكيلات مسلحة تابعة للحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام. نتحدث هنا عن قوات ذات ولاءات وهياكل قيادية مختلفة، مثل قوات العدل والمساواة بقيادة الدكتور (جبريل إبراهيم) ، وقوات حركة تحرير السودان بقيادة (مني أركو مناوي) ، بالإضافة إلى مجموعات أخرى متعددة. هذا التواجد العسكري المكثف، وإن كان يرفع لواء الأمن الظاهري، إلا أنه يخلق بيئة ضاغطة، محملة بالتوترات اليومية مع سكان المدينة الذين يعانون من وطأة ظروف معيشية قاسية وغياب اليقين.
ما يزيد الوضع تعقيدًا وإيلامًا هو الانتشار الصارخ للسلاح وحامليه في الأحياء السكنية والأسواق المكتظة. لم يعد مشهد الرجال المدججين بالسلاح مقتصرًا على نقاط التفتيش أو المواقع العسكرية؛ ففي أزقة الأحياء الهادئة، وفي الأسواق الصاخبة التي تعج بالحياة، أصبح من المألوف رؤية أفراد مسلحين يتجولون بحرية، بعضهم يرتدون زيًا عسكريًا، والبعض الآخر بملابس مدنية، يحملون أسلحة خفيفة ومتوسطة على مرأى ومسمع الجميع. هذا الانتشار العشوائي للسلاح يزرع بذور الخوف وعدم الأمان في نفوس المواطنين، ويخلق بيئة خصبة للحوادث التي قد تتطور من مجرد احتكاكات فردية إلى اشتباكات أوسع، خاصة مع غياب آليات واضحة لضبط هؤلاء الأفراد ومحاسبتهم.
تتجسد هذه الاحتكاكات في حوادث فردية تتراكم لتكشف عن نمط مقلق من الإفلات من العقاب. لنأخذ، مثلاً، ما حدث في حي (القادسية) ، حيث تعرض مواطن لاعتداء مروع من قبل أفراد يُزعم انتماؤهم إلى حركة (العدل والمساواة) . و تعود تفاصيل الحادثة كما رواها العمدة (صالح تاج السر) و هو احد القيادات الأهلية بأن المواطن (محمود خواجة) كان يقود ركشة و كان خلفه عربة تتبع للقوات العسكرية و بسبب توقفه في مطب حدثت المشادة و بعدها تطور الامر لإقتياد خواجة الى مقر القوات نفسها في الحي السكني و الاعتداء عليه بالضرب و حلاقة شعره و لم تكن هذه الحادثة مجرد زلة عابرة؛ فقد هبت اللجان المجتمعية في (بورتسودان) لإدانة الواقعة بشدة، مطالبةً بمحاسبة فورية للمتورطين. هذه الاستجابة الشعبية السريعة ليست سوى تعبير عن إحباط عميق وتوق جارف للعدالة والمساءلة في بيئة غالبًا ما يغيب فيها تطبيق القانون بفاعلية.
أما الحادثة الأكثر إثارة للقلق، والتي ربما تكشف عن هشاشة النسيج الاجتماعي في زمن الحرب، فهي الاعتداء على مجموعة من شباب البجا٬ تعرض هؤلاء الشباب للضرب والإهانة على يد أحد عناصر القوات المسلحة (الجيش السوداني) لسبب لا يُصدق: تحدثهم بلغتهم الأم، البيجاوية، بدلاً من اللغة العربية كما افاد احد المعتدى عليهم في تسجيل الفيديو على موقع فيسبوك و هو الناشط المجتمعي (سنونا) . وقع هذا الاعتداء المهين قرب مركز عسكري، وسرعان ما انتشر مقطع الفيديو للشباب المعتدى عليهم على وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكدون فيه أن الاعتداء كان فقط بسبب استخدامهم للغتهم، موضحين أنهم لا يجيدون التحدث بالعربية بطلاقة.
تتفاقم الأوضاع مع حوادث تكرر نمطًا مقلقًا من الإفلات من العقاب، وكأنها تكشف عن ثغرات عميقة في بنية الأمن والعدالة. ففي حي المطار ، وقعت حادثة مروعة اخرى لتهز ثقة المواطنين في أمانهم داخل منازلهم. قام جندي من القوات المشتركة بالهجوم على السيدة(إخلاص) في منزلها لسرقتها ، ليرديها قتيلة بدم بارد. تجمّع الجيران على صوت الرصاص، لكن الجندي تمكن من الفرار، ليقتل في طريقه المواطن (محمد جمع) قبل أن يتم القبض عليه وإيداعه الحراسة لحين محاكمته. هذه الحادثة، بكل تفاصيلها المروعة، لا تؤكد فقط خطورة انتشار السلاح في أيدي غير منضبطة، بل تسلط الضوء أيضًا على الحاجة الماسة لآليات مساءلة حاسمة تضمن عدم تكرار مثل هذه الجرائم النكراء.
هنا تكمن المعضلة الحقيقية للقيادة السودانية. فبينما تسارع القوات المسلحة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة، كما رأينا في حادثة البجا، إلا أن قبضتها لا تمتد لتشمل جميع القوى المسلحة المتواجدة. ففي حادثة (سنونا) تحديدًا، كان رد فعل قيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية حاسمًا. فقد أصدر قائد المنطقة، الفريق (محجوب بشرى) ، قرارًا بحبس جميع أفراد القوة العسكرية المتورطة، بمن فيهم ضباط اصحاب رتب رفعية ، مع التوجيه بفتح تحقيق فوري وشامل. وأكد الفريق (بشرى) أن هذه التصرفات "سلوك فردي مرفوض" ولا تعكس توجيهات القيادة. هذا التحرك، وإن كان مهمًا لطمأنة الرأي العام، إلا أنه يسلط الضوء على واقع أكثر تعقيدًا وهو أن القوات المسلحة الرسمية، على الرغم من سعيها لفرض الانضباط، قد لا تملك السيطرة المطلقة على كل التشكيلات المسلحة الأخرى التي لا تندرج تحت هيكليتها المباشرة، والتي تعمل تحت المظلة الفضفاضة لـ"القوات المشتركة".
لكن الضرر النفسي والاجتماعي يتجاوز بكثير مجرد الإجراءات التأديبية. فقد دفعت هذه الحادثة القيادات المحلية إلى التعبير عن قلق عميق، مشيرين إلى أن الشباب الذين كانوا يكنون احترامًا للمؤسسة العسكرية بدأوا الآن في إعادة تقييم علاقتهم بها. لقد أثارت الحادثة "موجة غضب عارمة في أوساط مواطني شرق السودان"، الذين دعوا إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد أي انتهاكات، مؤكدين بلا لبس أن احترام القانون يجب أن يطبق على الجميع، بمن فيهم أفراد القوات النظامية. الرسالة واضحة تمامًا: كرامة المواطن ليست سلعة يمكن المساومة عليها تحت أي ظرف، والدعوة للمسامحة لا يمكن أن تكون بديلاً عن تحقيق العدالة المنشودة.
إن ما يحدث في بورتسودان ليس مجرد حوادث فردية متفرقة؛ إنه نذير تحديات أعمق تواجه السودان في هذه المرحلة الحساسة. التواجد العسكري المكثف، سواء من القوات المسلحة أو القوات المشتركة، وانتشار السلاح، وإن كان يُبرر بضرورات الأمن، يجب أن يوازيه آليات واضحة للمساءلة وحماية حقوق المواطنين، وترسيخ مبدأ سيادة القانون. إن بناء جسور الثقة بين القوات العسكرية والمجتمعات التي تدعي خدمتها، فضلاً عن دمج وتوحيد جميع التشكيلات المسلحة تحت قيادة واحدة منضبطة، هو حجر الزاوية لأي استقرار مستدام. فبدون هذه الثقة والوحدة، ستظل بورتسودان، وربما السودان بأكمله، تتقاذفها رياح الفوضى، تدفع ثمنًا باهظًا لحرب لم تنته بعد، وسلام يبدو بعيد المنال.
