حوار خاص مع السيدة (رباب بلدو) و هي رائدة سودانية كرست حياتها لدمج قضايا النوع الاجتماعي في أهم عمليات السلام منذ التسعينيات، بدءًا من اتفاقيات السلام السودانية الكبرى وصولاً إلى جهودها المستمرة لدعم النساء في مناطق النزاع. حاصلة على جائزة سونزي 2025 الدولية للسلام، وبعملها مع الأمم المتحدة وإيغاد، أثبتت السيدة بلدو أنها قوة دافعة وراء الكواليس، تدافع عن أصوات النساء في كل مفاوضات السلام.  نقلب معها في هذا الحوار اوراق عن مسيرتها وجهودها في بناء السلام العادل والشامل و نقرأ من دفاترها عن حرب ال 15 من ابريل و الرؤى و آفاق الحلول.

لطالما ارتبطت مبادرات السلام في مناطق النزاع بنمط يكاد يكون ثابتًا: وقف إطلاق النار يليه الاتفاق على صيغ لتقاسم السلطة والثروة. لكن هل هذا هو السبيل الوحيد نحو سلام مستدام؟ هذا سؤال يطرح نفسه بقوة في ظل فشل العديد من هذه الاتفاقيات في تحقيق الاستقرار الحقيقي.

في حوار خاص، تكشف لنا (رباب بلدو) عن رؤيتهم لمبادرة جديدة تسعى لكسر هذا النمط السائد.

 كل مبادرات السلام المطروحة تذهب لوقف إطلاق النار ومن ثم الاتفاق على صيغ لتقاسم السلطة والثروة، ما المختلف الذي تطرحونه في مبادرتكم وتظنون أنه سيحدث اختلافاً في النمط السائد من اتفاقات السلام؟

"هذه مشكلة جذرية وعالمية للأسف. كل عمليات السلام تستخدم نموذجًا أو إطارًا معروفًا عالميًا وهو تقسيم السلطة"، وتواصل بلدو: “حتى هذه اللحظة، وعلى المستوى العالمي، وأنا من الأشخاص الذين يذكرون هذه المسألة في منابر متعددة ومع مجموعة من الفاعلين الأفارقة، ضرورة إبرام اتفاقيات سلام تؤدي إلى التحول وتخرجنا من إطار تقسيم السلطة".

وتضيف: "اتفاقيات السلام القائمة على تقسيم السلطة أثبتت فشلها في السودان رأيناها في اتفاق السلام الشامل لجنوب السودان، وفي اتفاقية دارفور (أبوجا والدوحة)، وفي اتفاقية شرق السودان بالكويت، وأيضًا في اتفاقية جوبا بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة. وشهدناها كذلك في خارج السودان في الكونغو وليبيا والعديد من الدول التي مرت بالنزاعات".

وترجع بلدو هذا الفشل إلى إهمال جانب جوهري: "للأسف، لأنها مبنية على تقاسم السلطة، لم تنظر إلى مسألة العدالة والمحاسبية للانتهاكات التي ارتكبت. ورغم البنود التي تنادي بالعدالة الانتقالية وفصول كاملة مخصصة لها، إلا أنها نظرت للجانب المالي وأغفلت الجانب العدلي من هذه المسألة".

وتتابع موضحة تبعات هذا الإغفال: "بما أن معظم الناس يطالبون بالسلام قبل العدالة، فقد خلق ذلك العديد من الأوجاع والآلام التاريخية. العديد من المجتمعات التي عاشت العنف والاغتصاب لم تتحقق لها العدالة، وبالتالي لم تشعر بالرضا لأنه لم يتم استرداد حقوقها ولم تتم معالجة ما مرت به بشكل عادل".

وتشدد بلدو على أن الإطار الحالي للمفاوضات يكرس المشكلة: "دعنا نتفق أن كل الاتفاقيات وكل الإطار الذي نعمل به الآن في مجال الوساطة يعتمد على تقسيم السلطة. وبما أن طبيعة النزاع تدور حول السلطة والثروة، فإن كل المجموعات المسلحة والحكومات تدخل في مسألة الإرضاء السياسي من خلال استخدام توزيع الثروة والسلطة. هذه مشكلة أزلية، فكرة فُرضت علينا في كل النواحي".

وتختم بلدو حديثها في هذه النقطة بالإشارة إلى التوجهات البديلة: "بالتالي، هناك من ينادي بأن ننظر إلى العدالة أولًا، وأن تشمل الاتفاقيات تحولًا حقيقيًا في المجتمع والسياسات وفي استخدام الموارد، وليس مجرد حصص تُقسّم. لقد جلست في العديد من اتفاقيات السلام، ولو أخبرتك كيف تتم عملية توزيع السلطة والثروة، فهي معادلات رياضية تُعمل بناءً على التمثيل النسبي لكل مجموعة مسلحة. فإذا كان لديك تمثيل كبير، ستحصل على نصيب الأسد، وإذا كان تمثيلك بسيطًا، ستحصل على النصيب الأصغر. إنها عملية غير مرضية حتى الآن، ولكن للأسف هي السائدة".

يبرز دور النساء كقوة دافعة نحو السلام الحقيقي، متجاوزات الأطر التقليدية لتقاسم السلطة والثروة التي غالبًا ما تفشل في تحقيق الاستقرار المنشود. في استمرار لحوارنا مع رباب بلدو، نتعمق في الكيفية التي يمكن للنساء من خلالها تقديم معالجة جذرية للأزمات. كيف تأتي النساء بالمعالجة الحقيقية؟

"تدرك النساء تمامًا أن مسألة توزيع الموارد ليست جوهر السلام،" تقول بلدو. "لذلك، أتين بمبادرات مجتمعية تسعى فعلاً لتحقيق السلام والتعايش السلمي وإعادة بناء النسيج المجتمعي في المناطق التي تعرضت لدمار اجتماعي واقتصادي جراء النزاعات المختلفة".

وتوضح بلدو أن هذه المبادرات تبدأ بخطوات عملية ومؤثرة: "أتين بمبادرات على المستوى المحلي، لأنه لا يمكن لأي مبادرة أن تأتي بحل سياسي أو إنهاء للحرب دون وقف لإطلاق النار مبدئيًا. لقد أسهمت النساء في العديد من الدول، وأنا فخورة جدًا بأن نساء وكنداكات بلادي أتين بمبادرات على المستويات المحلية، سواء في جنوب كردفان أو كردفان الكبرى، من خلال التفاوض مع الجيش والمجموعات المسلحة المختلفة في المنطقة لوقف إطلاق النار المؤقت لساعات محدودة خلال اليوم، من الساعة الثانية عشرة ظهرًا وحتى الثالثة عصرًا. هذا، ليتمكن من الوصول إلى السوق وشراء حاجياتهن الأساسية، والعودة لمواصلة العمل في (المطابخ المركزية) وفي بيوتهن وغرف الطوارئ، وإعالة أسرهن. وقد ساهمت هذه المبادرات في تقليل الفجوة الغذائية في العديد من المناطق التي قامت فيها النساء بخلق هذه المبادرات".

وتضيف بلدو إلى جهود النساء على الأرض: "أيضًا، قُمن بمنع تجنيد أبنائهن وإخوانهن وأزواجهن لكيلا تستمر الحرب. هذه مبادرات على مستويات ضيقة وبسيطة، ولكن لها أثر كبير جدًا في تمكين النساء من التأثير على الحرب القائمة والمساهمة في إنهائها بأسرع فرصة".

وعلى صعيد التخطيط للمستقبل، تبرز قيادة النساء: "استطاعت النساء أيضًا الجلوس مع بعضهن البعض من كل ألوان الطيف السياسي والمجموعات المسلحة – ومن المعروف أن السودان يضم عددًا كبيرًا من المجموعات المسلحة – واستطعن الاتفاق على خارطة طريق وأجندة مشتركة للنساء. هذه الأجندة تساعد في وضع الأولويات في المراحل المختلفة، سواء كانت مراحل التحول السياسي أو مرحلة ما بعد الحرب ومرحلة إعادة الإعمار والإنعاش. هذه مراحل كبيرة ومهمة جدًا، وإذا لم تكن النساء جاهزات لها من الآن، فستصبح المسألة صعبة. ونحن نسبق الرجال بمراحل في مسألة ترتيب أوراقنا ولدينا رؤية واضحة عملنا حولها".

وفي مجال المناصرة والدبلوماسية، اتخذت النساء نهجًا مبتكرًا: "النساء أيضًا فكرن خارج الصندوق في إيجاد طريقة أخرى في مسألة المناصرة، وبدأن في مسألة الدبلوماسية الشعبية للتواصل مع الشعوب في بلدان عديدة. هذه البلدان لديها تأثير مباشر على الحرب في السودان، سواء سلبًا أو إيجابًا. استطعن التواصل من خلال (الدبلوماسية المكوكية) مع القيادات في الدول، وخاصة النساء، ليكون هناك نوع من التضامن النسوي وأن تكون حرب السودان المنسية من الأولويات في الدول المختلفة. هناك العديد من المبادرات التي قامت بها النساء، وأيضًا على المستوى الضيق والأبسط، عملن في التنوير من خلال الجلسات البسيطة في المجتمعات، كجلسات القهوة على مستوى المجتمعات الريفية الصغيرة، بالمناداة بوقف الحرب وضرورة العمل سويًا وإيقاف صوت القبلية وتخطيها. وهن يعملن بشكل مباشر في السلام المجتمعي والتعايش السلمي وردم الهوة التي حدثت في النسيج الاجتماعي لكي نستطيع التعايش مع بعضنا البعض، وخاصة الأجيال القادمة، لأن ما يحدث الآن سيجعلنا نكره بعضنا البعض إلى الأبد ويبقى البلد في حالة حروب مستمرة".

وتختتم بلدو بأسف يعكس الواقع الراهن: "فالنساء يقمن بالعديد من المجهودات، ولكن للأسف كل الذي يقمن به على المستويات المختلفة يتجاهله الساسة ولا ينظرون إليه. وللأسف هناك فجوة كبيرة جدًا في الربط بين ما تقوم به النساء وما يدور على المستوى السياسي. حتى مشاركة النساء في عمليات السلام وفي عمليات التفاوض وفي المؤتمرات على المستويات المختلفة تكون ضعيفة وخجولة؛ اثنتان أو ثلاث فقط بالرغم من أعداد النساء اللاتي لديهن الخبرة والمؤهلات ولديهن القدرة، بكل تأكيد أكبر بكثير من مستوى التمثيل أو النسب التمثيلية لهن".

في خضم البحث عن حلول مبتكرة للنزاعات، تبرز الدبلوماسية الشعبية كأداة فعّالة بيد النساء السودانيات، للكشف عن تفاصيل هذه المبادرة الفريدة التي تهدف إلى إنهاء حرب السودان المنسية. هل يمكننا الاستفاضة أكثر فيما يخص الدبلوماسية المكوكية؟

"الدبلوماسية الرسمية دائمًا ما تتخذ طابع من الجدية والالتزام بالقنوات، لكن تواصل الشعوب مع بعضها البعض دائمًا لديه أثر أكبر؛ لذلك أنا أسميها الدبلوماسية الشعبية"، توضح بلدو: "أتت الفكرة بعد عمل العديد من التحليلات، فقد استغرقت النساء وقتًا طويلًا جدًا في تحليل الوضع الراهن وتحليل الأطراف المختلفة التي لها تأثير على ما يحدث في السودان في هذه الحرب الدائرة. ومن خلال هذا التحليل وتحليل موازين القوى، تم تحديد تسع دول. هذه الدول لديها علاقة مباشرة مع طرفي النزاع ولها علاقة مباشرة بالحرب الدائرة في السودان، كما ذكرت سابقًا، سلبًا أم إيجابًا".

وتضيف بلدو: "لذلك، أدركت النساء من خلال ذلك أن حرب السودان منسية تمامًا، والتركيز يتم على دول أخرى. فقررنا أن تتم زيارات لهذه الدول والتواصل مع الجهات الرسمية فيها، ومع النساء البرلمانيات، ومع منظمات المجتمع المدني، ومع الإعلام، لخلق نوع من التنوير بما يدور في السودان ومخاطر الحرب الدائرة وأهمية الضغط على طرفي النزاع لإنهاء هذه الحرب. التجربة، سواء في الجنوب أو في السودان الآن، أحدثت نوعًا من الزخم وأعادت وضع حرب السودان ضمن أولويات هذه الدول، وتناولتها وسائل الإعلام والبرلمان والعديد من الجهات في الدول التي تمت زيارتها".

كما تشير بلدو إلى الأثر الإيجابي لهذه الدبلوماسية على الصعيد النسوي الدولي: "أيضًا، خلقت نوعًا من التضامن النسوي، خاصة من البرلمانيات في الدول المختلفة اللاتي أخذن القضية بالتزام تام وجدية، وأصبحن يتناولن القضية والضغط على طرفي النزاع، وأن موارد السودان، خاصة الذهب، تصل إلى العديد من الدول الأوروبية. وبالتالي، هذه الدول تسهم في زيادة معاناة النساء في السودان وتمديد الحرب".

وتؤكد بلدو على الدور التذكيري للدبلوماسية المكوكية: "ساهمت الدبلوماسية المكوكية كذلك في تذكير هذه الدول بالتزاماتها نحو أجندة المرأة والأمن والسلام. جميعنا نعلم القرار الأممي 1325 والقرارات العشرة الأخرى المرتبطة به التي خصصت للعنف القائم على النزاع والعنف القائم على النوع. فكل هذه الدول التزمت بأنها لن تشارك في معاناة النساء في دول أخرى بالإضافة إلى دولهم. فتذكيرنا لهم بهذه الالتزامات وبأنهم رأوا أهمية التنمية بالنسبة لهم وأهمية النمو الاقتصادي لهم وأغمضوا أعينهم عن معاناة السودان، هذه المسألة كان لها أثر إيجابي. وحتى الآن، النقاشات تدور في برلماناتهم ويعملون لوجود معادلة بين مصالحهم الاقتصادية وأهدافهم التنموية وبين التزامهم نحو أجندة المرأة والأمن والسلام. (تجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية المكوكية نُفذت فقط في السودان)".

 هل شاركت الدبلوماسية المكوكية في اتفاق السلام الشامل لجنوب السودان؟

"لا، هذه مبادرة حالية مرتبطة بالحرب الدائرة الآن،" توضح بلدو. "في اتفاق السلام الشامل لجنوب السودان، كانت هناك مبادرة أيضًا قادتها نساء سودانيات لفتح حوار ما بين النساء في شمال السودان والنساء في جنوب السودان في وقت كانت فيه قضية السلام قضية أمن دولة. لقد تواصلنا لإعطاء النساء فرصة للالتقاء والتفاكر، لإيجاد مساحة آمنة للقاء، وساعدت كثيرًا في إيجاد أجندة المرأة للسلام. صحيح توجد خلافات بيننا ومواقف متباينة، ولكن هناك حد أدنى للتوافق بيننا كنساء. وذلك ساعدنا في اتفاق السلام الشامل لجنوب السودان واتفاقية الدوحة واتفاقية أبوجا وفي اتفاقية جوبا وكل اتفاقيات السلام التي مرت على السودان".

*في حوارنا المتواصل مع رباب بلدو نتطرق إلى سؤال جوهري حول تضاؤل مشاركة النساء السودانيات في جهود السلام الحالية، مقارنة بدورهن البارز في السابق، خاصة خلال اتفاق السلام الشامل لجنوب السودان. كما نبحث في الأسباب الكامنة وراء هذا التراجع، ونقاط القوة الكامنة في الدبلوماسية النسائية الشعبية.

 على الرغم من الدور التاريخي للنساء السودانيات في اتفاقات السلام السابقة، لماذا يبدو صوتهن متناقصاً بشكل كبير في الحرب الراهنة، وهل يعود ذلك إلى ضعف في مشاركتهن، أم أن الممارسة السياسية أصبحت أكثر إقصائية؟ وماذا عن الأصوات النسائية المؤيدة للحرب؟ *

"هذا السؤال مهم جدًا، وسأرد عليه كوسيطة،" تقول بلدو. "هَمْ الوسيط الأساسي في أي اتفاقية سلام هو أن ينجح في عملية خلق التوافق بين الطرفين المتنازعين. وإذا عدنا للأدبيات، ستجد أن الوسيط الناجح هو الذي يستطيع التوفيق بين طرفي النزاع والوصول إلى اتفاقية، ويستطيع إقناعهما بالتوقيع عليها. هذا هو الهم الأساسي لأي وسيط يدخل في عملية الوساطة بين أطراف النزاع".

وتضيف: "ربما هذا هو ما جعل العديد من الوسطاء يركزون فقط على طرفي النزاع. القليل من عمليات السلام التي شاركت فيها أدخلت أصحاب مصلحة آخرين، مثل جنوب السودان، والقليل من البلدان أدخلت أصحاب المصلحة، ولكن أيضًا مشاركتهم خجولة وليست مشاركة فعلية أو هي مشاركة ضئيلة، بحيث لا تعرقل الهدف الأساسي للوسيط في أن يوصل طرفي النزاع إلى اتفاقية".

تشير بلدو إلى تعقيد الوضع الحالي: "ما حدث في هذه الحرب هو أن طرفي النزاع رافضان تمامًا الجلوس مع بعضهما البعض، فالمسألة معقدة جدًا للوسطاء. أضف إلى ذلك، أي مشاركة من أصحاب مصلحة لا بد أن تتم بموافقة طرفي النزاع. وإذا رفض أحد الطرفين وجود الشباب، أو النساء، أو الإدارات الأهلية، أو أي طرف مدني مثلاً أو غيرها من الفئات، يصعب على الوسيط ذلك، بالرغم من أنه تكون هناك محاولات لإقناع أطراف النزاع ومحاولات لتذكيرهم بالتزاماتهم الإقليمية والدولية والعالمية التي تنادي بمشاركة النساء وأطراف المصلحة، وضرورة مشاركتهم في عمليات صنع السلام".

وتوضح بلدو أن مشاركة النساء مرهونة بمرونة الوسيط: "تظل مشاركة النساء تعتمد على مرونة الوسيط وقوته في الضغط على طرفي النزاع بالقبول بالأطراف الأخرى. وإذا استعصت هذه المسألة، تصبح ثانوية له. وهذا الأمر ليس للنساء فقط، وإنما لجميع أصحاب المصلحة من إدارات أهلية وشباب وذوي احتياجات خاصة وكل الفئات المختلفة الموجودة في المجتمع، بأن تشارك كطرف من أطراف صنع السلام أو كمفاوضين، حتى وإن كان في المسار الأول أو الثاني أو الثالث في عملية صنع السلام".

"حتى في اتفاق السلام الشامل لجنوب السودان، العملية لم تكن سهلة، بل كانت صعبة جدًا،" تذكر بلدو. "كان الوسيط لواءً في الجيش، لا يعرف إلا اللغة العسكرية – وهو من كينيا، ومع التحفظ على الأسماء جميعنا يعرف من كانوا الوسطاء – وحتى الآن رؤيته هي أن يجلس طرفا النزاع ويوقفان سيلان الدماء ويستطيع الناس العيش، ثم يأتي دور المحادثات والحوار السياسي، حيث يفتح الباب لهم بعد ذلك من نساء وشباب وكل المجموعات المختلفة للانخراط في العملية السياسية".

وعن جهود النساء في جنيف، تقول بلدو: "عندما ذهبنا إلى جنيف، طرف من أطراف النزاع لم يكن موجودًا، وبالتالي رفضنا نحن كنساء أن نكون جزءًا من هذه العملية، لأننا نريد حوارًا بين الطرفين. فرفضنا رفضًا تامًا الجلوس مع طرف واحد لإيماننا بحيادنا التام وإيماننا بقضيتنا وأن ما نريد طرحه للطرفين معًا. وعندما استعصى وجود الطرفين، جلسنا مع الوساطة وقدمنا لفريق الوساطة اتفاقية لوقف إطلاق النار من منظور نسوي والتي ساهمت في وضعها العديد من النساء. وهذه أول مرة في التاريخ تقدم اتفاقية كهذه من قبل نساء لفريق الوساطة، وكان ذلك مدهشًا للوساطة لإدراكهم مدى وعي النساء السودانيات بهذه المسألة. وهذه الاتفاقية ساعدتهم في وضع مسودة السلوك التي أُعدت لطرفي النزاع لوقف إطلاق النار ووافق عليها طرفا النزاع".

وتسلط الضوء على مبادرات نسائية أخرى: "المساعدة الثانية التي قامت بها النساء هي المنظور المحلي لوقف إطلاق النار. إذا كانت هناك إشكالية في وقف إطلاق نار كلي في كل المناطق، فلِمَ لا نبدأ بمناطق معينة ونتوسع في ذلك؟ وكانت المبادرة في أن تكون هناك أسواق للسلام ومناطق آمنة، وخاصة المناطق الزراعية، لتساهم في سد الفجوة الغذائية وسد المجاعة التي بدأت في السودان."

"وضعت النساء رؤية للإغاثة في الوضع المحتدم والدائر، ومن خلال الضغط ومن خلال رؤية النساء تم توصيل الإغاثة،" تضيف بلدو. "وأول عربة إغاثة تصل الفاشر كانت من خلال الضغط الذي مارسته النساء. فقد كن حريصات على إنقاذ المدن المتأثرة بالإغاثة والمدن المتأثرة بالنزاع الآن، ويضمن سلامة كل المواطنين، وخاصة أخواتهن النساء في مناطق النزاع والمناطق المحاصرة".

وحول المشاركة التاريخية للنساء، توضح بلدو: "مشاركة النساء في مختلف اتفاقيات السلام التي مرت على السودان لم تكن سهلة. في أبوجا والدوحة وفي شرق السودان كان تحديًا كبيرًا جدًا. في جوبا كانت أكثر مرونة لوجود الخبرة والمعرفة، وأيضًا القيادات كانوا يريدون تمثيل النساء، فلذلك كانت هناك مرونة في مشاركة النساء لكن في المسار الثاني فقط. أما في المسار الأول، كانت مشاركة النساء خجولة جداً للأسف، اثنتان إلى 25 تقريبًا".

وتجيب بلدو على سؤال ضعف المشاركة الحالية: "ضعف المشاركة ليس لأن أصوات النساء ضعيفة، بالعكس، النساء الآن أكثر شراسة لضمان مشاركتهن، لأنهن ببساطة تعبن ووصلن لقناعة أن الرجال لن يأتوا بسلام للسودان. وهن الآن يُردن المشاركة في الوفود الرسمية وفي المسار الثاني والثالث وعلى جميع المستويات ليكن أساسًا في السلام".

وعن تنوع الأصوات النسائية، تشير بلدو: "صحيح أن هناك العديد من النساء يتبنين أجندة طرفي النزاع. وهذا ليس لأنهن مختلفات عنا، ولكن لقناعتهن بذلك. إذا كنت سياسية وأنتمي لحزب سياسي، فخط الحزب وقراراته تسري عليّ أيضًا. وعلي الجميع رجال ونساء. او الانتماء القبلي او الجهوي واحساسهن بالتهميش رغم أننا رأينا العديد من النساء السياسيات يقدمن أجندة المرأة داخل الأحزاب السياسية المنتميات لها أكثر من الأجندة الحزبية. وفي الحرب الحالية، رأينا العديد من الأخوات والإخوان الذين تم استقطابهم بناءً على القبلية والحزبية، وهذا شيء طبيعي في ظل النزاعات" واحساس البعض بالتهميش فهي لعبة سياسية وكل يضغط بالأسباب التي يراها مناسبة.

"وهذا أحد أسباب تراجعنا كنساء، لأننا نتحاور الآن وكل منا يرى أن الطريق الذي سلكه هو الطريق الذي سوف يؤدي إلى إنهاء الحرب،" تضيف بلدو. "بالرغم من أننا لدينا مسودة سلوك فيما بيننا كنساء غير مكتوبة بأننا محايدات ولا ننتمي لأي طرف من أطراف النزاع، وهمنا الحفاظ على ما تبقى من البلد والحفاظ على المواطنين وموارد البلد ولا نطمع لسلطة ولا نميل لأي من طرفي النزاع. هذه هي الأولويات التي جمعتنا من سنين، وهذه الحرب أيضًا جمعتنا والتزمنا بعدم مناصرة أي طرف من أطراف النزاع والحيادية التامة لإيقاف الحرب".

وتختتم بلدو حديثها: "حدث تراجع بعد تكوين (الميثاق التأسيسي) لأن بعض النساء ذهبن في طرف بناءً على الانتماء الحزبي أو القبلي، بالإضافة لمجموعات أخرى أيضًا داعمة للجيش. رغم اختلافاتنا، ولكن نتفق دائمًا في أجندتنا كنساء (الاختلافات التي وحدتنا)، ودائمًا همنا واحد وهو البلد، وأمنها، ومواردها ومواطنيها".