نيالا-سودان سكوب
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التطور، وتتلاطم فيه أمواج التكنولوجيا، تظل هناك بقع على الخريطة العالمية تتشبث بالحياة بأسنانٍ وأظافر، تتصارع مع واقعٍ مريرٍ فرضته عليها قسوة الصراعات. جنوب دارفور، هذه المنطقة التي طالما ارتبط اسمها بالمأساة، تجد نفسها اليوم غارقة في أتون حربٍ لا تبقي ولا تذر، حربٌ لم تُجهز فقط على مقومات الحياة، بل مزقت نسيجها الاجتماعي، وتركت وراءها ندوبًا عميقةً في كل ركنٍ من أركان الوجود الإنساني. إنها قصةٌ حقيقية ليست مجرد تقارير صحفية، بل هي صرخةٌ مدويةٌ من قلب أزمةٍ إنسانيةٍ خانقة.
"صراع من أجل البقاء في وجه الموت"
إن الحديث عن الوضع الصحي في جنوب دارفور هو كشفٌ عن مأساةٍ حقيقيةٍ تتجلى في أدق تفاصيلها. لقد أدت الحرب الدائرة إلى انهيارٍ شبه كاملٍ للخدمات الصحية. فالمستشفيات، سواء الخاصة أو الحكومية، لم تعد قادرة على أداء دورها. من بين كل المرافق الطبية، لم يتبق سوى ثلاثة مستشفيات رئيسية هي (المستشفى التعليمي) و (المستشفى التخصصي) و (المستشفى التركي) ، بالإضافة إلى (مركز الأبرار الطبي) و (مستشفى الشاكرين الطبي) وهما من القطاع الخاص. هذا العدد الضئيل من المرافق الطبية أصبح يتحمل عبئًا يفوق طاقته بكثير.
إن نقص الكوادر الطبية، الذي تفاقم بسبب نزوح الأطباء والممرضين هربًا من جحيم الحرب، جعل هذه المستشفيات تعمل بأقل من طاقتها بكثير. المواطنون، في سباقٍ محمومٍ مع الزمن، يسابقون الليل والنهار بحثًا عن بارقة أمل لإنقاذ حياة مرضاهم، غالبًا ما يجدون أنفسهم في مواجهة نقصٍ حادٍ في الأدوية. وفي ظل هذه الظروف، تضطر المنظمات الإنسانية مثل (أطباء بلا حدود) إلى العمل في بيئةٍ تتجاوز قدرتها على تلبية جميع الاحتياجات، مما ينذر بنقصٍ حادٍ في الأدوية الأساسية. والأدهى من ذلك، أن المواطن أصبح مجبرًا على شراء الأدوية من الصيدليات ، معرضًا بذلك حياته للخطر في ظل غياب الرقابة، حيث قد تكون هذه الأدوية تالفة أو غير صالحة للاستخدام.
المستشفيات التي خرجت عن الخدمة، مثل مستشفى الشرطة ومستشفى السلاح الطبي وعدد من المستشفيات الخاصة، تمثل شاهدا صامتًا على حجم الكارثة. الكوادر الصحية المتوفرة اليوم لا تمثل سوى جزءًا ضئيلاً مما كانت عليه قبل الحرب، وكثير من المتواجدين هم من ذوي الخبرات البسيطة. هذا الواقع يجبر مرضى الأمراض المزمنة على الانتظار لأيام وربما شهور لإجراء العمليات الجراحية، وفي بعض الأحيان، يجد الأطباء أنفسهم مجبرين على تقديم الرعاية لجنود الحرب، تاركين المواطنين المدنيين لمصيرهم.
"جيل يواجه الفراغ والضياع"
لا يقل وضع التعليم في جنوب دارفور سوءًا عن الوضع الصحي. منذ اندلاع الحرب، توقفت معظم المدارس، الحكومية والخاصة، عن العمل، تاركةً فراغًا تربويًا هائلاً. بينما بذلت بعض المجالس التربوية وجهود أعيان الأحياء محاولات لفتح بعض المدارس الحكومية في محاولة يائسة لحماية الأبناء من الضياع، إلا أن هذه الجهود غالبًا ما باءت بالفشل. المعلمون، الذين يعانون من نقصٍ في الدعم والخدمات، يضطرون لترك التدريس والبحث عن أعمال أخرى لتوفير لقمة العيش لأبنائهم.
أما المدارس الثانوية، فلم تفتح أبوابها على الإطلاق. تحول معظمها إلى مراكز إيواء للنازحين الفارين من جحيم الحرب في الفاشر، وهو ما يشير إلى أبعاد المأساة الإنسانية التي ضربت المنطقة. مدارس مثل (حي الوادي الثانوية) ، (نيالا الثانوية) و و (المصطفى الثانوية) ، بالإضافة إلى معظم المدارس الأساسية، أصبحت ملاجئ للنازحين.
على الرغم من مبادرات أهل الأحياء لفتح بعض المدارس واستيعاب أبناء النازحين دون قيود، فإن الفراغ الذي خلفته الحرب في نفوس الطلاب كبير، لدرجة أن التعليم أصبح شيئًا منسيًا بالنسبة للكثير منهم. أصبح التركيز ينصب على المعاهد والخلاوي كبديلٍ وحيدٍ للتعليم النظامي.
إن وضع المعلمين لا يقل قسوة٬ الرواتب لا تصرف بانتظام، وغالبًا ما يتأخر صرفها لعدة أشهر، قد تصل إلى ثلاثة أشهر أو أكثر. والأخطر من ذلك، أن رواتب بعض المعلمين قد توقفت بحجة انتمائهم لجهات "رافضة للحرب". هذا التمييز يزيد الطين بلة، ويدفع الكوادر التعليمية المتبقية إلى اليأس.
إن ما يحدث في جنوب دارفور ليس مجرد أزمةٍ محلية، بل هو صرخةٌ إنسانيةٌ تتطلب استجابةً عالميةً عاجلة. ففي غياب أبسط مقومات الحياة من صحة وتعليم، يصبح مستقبل جيلٍ بأكمله على المحك.