في أبريل 2023 اندلعت الحرب في السودان. بدأت في الخرطوم ثم تمددت إلى نهايات غير معروفة حتى الآن. مات فيها الكثيرون، وظل البقية يواجهون مصاعبها المتنوعة، خصوصا ممن هم بالداخل، وبالأخص فئة كبيرة مهملة، هم ذوي التوحد.

للسيدة أم أحمد قصة مأساوية لكونها أم لصبيين مصابان بالتوحد، خرجت بهم من منزلها بالخرطوم بحثا عن أمان واستقرار لم يتحققا بعد. تقول أم أحمد: "منذ أن بدأت الحرب، أكافح بمشقة لأشرح لأبنائي ما استجد من حياتهم خارج البيت، وأشرح للآخرين، أيضا، كي يتقبلوا ذوي التوحد الذين أتوسل لهم الأقدار حتى يكونوا أحياء".

عالم التوحد كون يعج بالمجرات، ويشمل أطفالا لا يستطيعون التحدث، مثل أحمد، الابن الكبير للسيدة أم أحمد ، كما يشمل آخرين تخرجوا في الجامعات، لكنهم لا يستطيعون، على سبيل المثال، التمييز بين الجد والتهكم ولا يعرفون طبيعة الحياة الاجتماعية المتكلفة، ويواجهون صعوبة في التواصل مع الآخرين، ويشعر الواحد منهم وسط الناس كما لو أنه مرغم على التحدث بلغة أجنبية. 

تقول أم أحمد: بدأت علامات التوحد تظهر على أحمد منذ الولادة، لكن والده لم يكن ليتقبل فكرة أن ابنه مصاب بالتوحد. ومدفوعا بعاطفة الأبوة، حاول الهرب من هذا الحقيقة المخيفة، وهذا ما أخر تشخيص الحالة طبيبا. حدث ذلك رغم أن والده يعمل في الحقل الطبي، وكان يفترض فيه أن يكون أكثر تفهما لمثل هذه الحقائق.

وبعد نقاشات ومعاناة طويلة وافق والده على عرضه على الطبيب. كان ذلك بعد أن بلغ أحمد 5 سنوات من العمر. تأكدنا من حالة ابني بواسطة الطبيب. وبرغم استعدادي لسماع هذا التأكيد لكن الحقيقة كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي. كان أحمد هو ابني الكبير.

تضيف: بعد التأكد بواسطة الطبيب كان علينا أن نترك تفكيرنا القديم حول الأمر، وبدأنا رحلة طويلة ذات خصوصية عنوانها مراعاة أحمد، المختلف عن أقرانه وعنا جميعا، وهي رحلة لا تنتهي أبدا بالنسبة لأم ترعى طفلين يعانيان هذا اللغز: التوحد. وأشدهم معاناة هو الابن الأكبر، أحمد، بينما الثاني حالته أخف وأكثر هدوءا. وما جعل هذه الرحلة ذات معاناة نوعية ومؤلمة هو اندلاع الحرب في الخرطوم بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023.

تقول أم أحمد: قبل الحرب بدأت الرحلة بأن ينتظم أحمد في المركز المخصص لذوي التوحد في مدينة بحري، فانتظمت معه لمعرفة كيفية التعامل مع هذا النوع من الأشخاص. كنا نرتاد المركز حتى بلغ أحمد 10 سنوات. وبعد تدريبات مستمرة ومكثفة خلال هذه السنوات بدأ يتحسن لكنه لا يتكلم. 

على عكس التصنيف الشائع للتوحد كمرض فهو ليس مرضاً أو اضطرابا نفسياً، بل هو اضطراب نمائي يؤثر على السلوك والمهارات الاجتماعية واللغوية والمقدرة على التفاعل مع الآخرين والتعامل معهم على المستوى الاجتماعي. ولتجنب تعريف الشخص بناءً على تشخيصه، نقول أنه "على طيف التوحد" أو "من ذوي التوحد".

ويعتبر التدخل المبكر، ويشمل العلاج السلوكي والوظيفي واللغوي هو العامل الأهم في دمج الطفل في المجتمع، حيث يساعد في تحسين المهارات الاجتماعية واللغوية ومهارات التواصل.

وطبقا لإحصاءات غير رسمية هناك نحو 200 ألف طفل مصاب بالتوحد يواجهون المصاعب بسبب الحرب وإغلاق مراكز تنمية المهارات بالعاصمة الخرطوم، كما لا توجد بيانات واضحة حول وجود هذا النوع من المراكز في الولايات.

تواصل أم أحمد: بدأت الحرب في الخرطوم في منتصف أبريل، وبالطبع وجدتنا في منزلنا بمدينة الحلفايا، بالقرب من الكبري الرابط مع أم درمان. سريعا وصلتنا الحرب بكل رعبها وفزعها. كانت أصوات الرصاص والانفجارات والطائرات مزعجة للغاية لشخص مريض بالتوحد مثل أحمد. وكان يعبر عن إنزعاجه من فرقعة الرصاص بأصوات مكتومة وبالاختباء تحت سرير نومه. ولاحقا بات يرسم مشاهد الحرب التي رآها. 

جدير بالذكر أن لدى بعض الأطفال المصابين بالتوحد حساسية عالية جداً تجاه الأصوات، وتسبب الأصوات العالية أو غير المألوفة انزعاجا شديدا لدرجة الألم.

عرفت من أم أحمد أن الحرب وما تبعها من تداعيات أدت إلى معاناة أولادها اكتئابا وقلقا بائنا، خصوصا أحمد الذي اعتاد على اكتشاف الأمكنة الجديدة بواسطة الحركة الكثيرة والدوران حول المكان جيئة وذهابا مما أدخلته في مشاكل اجتماعية كادت أن تقتله.

تقول أم أحمد: نسبة لحالته الخاصة وخوفنا من عدم تقبله لدى الآخرين، رفضنا النزوح وقررنا البقاء في المنزل، وكنا نأمل أن تهدأ الأحوال سريعا ويجد المتحاربون وسيلة سياسية لإدارة الخلاف، لكن هذا ما لم يحدث. وبعد 70 يوما من الحرب وتداعياتها أصبح حينا خاليا من السكان، ووجدنا أنفسنا وحيدين باستثناء أسرتين فقط. وفجأة تحول منزلنا إلى ما يشبه العيادة الطبية، وكان قبلة للجرحى من الأحياء البعيدة مثل (الحاج يوسف، الدروشاب) الذين يطلبون خدمات زوجي. كان أحمد يرى منظر الدماء تسيل من المصابين، ويسمع الصراخ ويرى والده وهو يعالج تلك الدماء الغزيرة السائلة.

في أمسية من تلك الأمسيات كان بيت أم أحمد هدفا عسكريا على حد قولها، "لم يحمنا من الرصاص إلا سقف بيتنا الأسمنتي الصلب.. وهنا قررنا مغادرة الحلفايا إلى مدينة ود مدني في ولاية الجزيرة".

تقول أم أحمد: حملت معاناة أبنائي ووصلت بها إلى ود مدني، وكان في بالي أنني ربما أواجه مصاعب عدم تقبُل الناس، خصوصا الأسر، لحالة ابني المصاب بالتوحد. وبالفعل واجهنا هذه المصاعب مما اضطرنا للنزوح إلى (مركز إيواء) مخصص للمئات من المعاقين، حصلنا عليه بمساعدة (الهلال الأحمر).

كان الوضع في مركز الإيواء قأسيا بالنسبة لأم أحمد، ناهيك عن المعاقين وذوي التوحد. كان السكن عبارة عن مدرسة، نصيب أسرة أم أحمد منها مكتب صغير. ومع كل المعاناة التي يمكن تخيلها إلا أن الحرب وصلت هناك أيضا بعد 9 أشهر قضوها هناك، إذ وصلت قوات الدعم السريع إلى مدني، وكذلك وصلت الذخيرة إلى داخل السكن.

تقول: بطريقة ما تم إجلائنا بجرار كبير إلى قرية (درويش) بالقرب من ود مدني، وكان الإجلاء أيضا إلى مدرسة بلا سور. لا مأوى سوى ظل الأشجار. وهنا يمكن القول إن المعاناة الحقيقية بدأت من هنا، من درويش.

في مأوى (درويش) كان أحمد قلقا ومتوترا وكثير الحركة. ومدفوعا بهذا القلق كان هو كدرويش يبحث عن شيء ما. إن قلة التثقيف حول هذا الاضطراب تتيح لغير المصابين به، ولغير أسرهم أيضا، إصدار أحكام حول حياة وطبيعة ذوي التوحد، ويتم النظر إليهم كما لو أنهم في حالة اعتيادية. تقول أم أحمد: ذات ليلة تسلل أحمد بلا هدف ودخل على أسرة كانت تشاركنا مركز الإيواء فظن رب الأسرة أن أحمد، الذي بدت عليه ملامح الرجولة، أراد التحرش بأسرته، فحمل عصاة وطارده للفتك به! تمكنا بصعوبة من إنقاذ أحمد من رب الأسرة الغاضب.

بعد هذه الحادثة كانت أم أحمد تنام سويا مع ابنها تحت الشجرة وتربط رجل أحمد على رجلها حتى تحس به إذا تحرك. وبعد 60 يوما من هذه الحالة المضنية تمكنا من مغادرة (درويش) إلى مركز أيواء آخر في ولاية كسلا، شرق السودان. وهناك أيضا كرر أحمد التسلل ودخل على أسرة خفير مركز الإيواء، وكاد أن يقتله لولا العناية الإلهية.

مع كل هذه المعاناة فقد أحمد صلته بالتعليم ومكث لسنتين بدون دراسة إلى أن وجدنا فرصة في كسلا وانتظم في مدرسة تتيح له ثلاثة أيام دراسة في الأسبوع. ورحلتنا ما زالت مستمرة ولن تتوقف لأن السلطات في كسلا أخطرتنا بتجفيف دار الإيواء التي نحن فيها الآن!.