شندي-سودان سكوب
رغم ان الولاية لم تختبر الحرب الا في اطرافها الجنوبية لفترة قصيرة الا انها تبرز كنموذج صارخ للعواقب الوخيمة لتقاعس الدولة عن احتكار العنف. فبينما تتصاعد حدة القتال بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، تتكشف حقائق مثيرة للقلق في مدينة (شندي) بولاية نهر النيل، تشير إلى مستقبل مظلم من الفوضى والاضطراب إذا لم يتم تدارك الأمر . إن الدعوات الحكومية لتسليح المدنيين، وما تبعها من انتشار كثيف للسلاح في هذه المحلية، لا ينذر بانفلات أمني وشيك فحسب، بل يهدد بإغراق المنطقة في أتون حرب و نزاعات أهلية لا تبقي ولا تذر.
إن الخطوة المثيرة للجدل والمتمثلة في "تجييش" المدنيين، والتي اعتبرتها جهات مدنية مناهضة للحرب بمثابة تصعيد خطير، تحول المدن الصغيرة مثل (شندي) إلى بؤر متفجرة. ففي سياق يتسم بالهشاشة، حيث لا يزال المواطن العادي يعاني ويلات الحرب، يصبح انتشار السلاح الشخصي نذير شؤم. تشير الإحصائيات إلى انضمام آلاف المقاتلين المسلحين من شندي إلى صفوف الجيش ، ما يدل على مدى انتشار الظاهرة وتعمقها في النسيج الاجتماعي. فالمناطق التي لم يكن تسليح الشباب فيها أمراً شائعاً سابقاً، أصبحت الآن مرتعاً للميليشيات المدنية، أو ما يعرف بـ"الاستنفار الشعبي".
لقد ارتفعت وتيرة "الاستنفار الشعبي" بشكل ملحوظ في ولاية نهر النيل بعد سقوط (ود مدني) ، عاصمة ولاية الجزيرة، في يد قوات الدعم السريع. ورغم أن المقاومة قد تحولت إلى مزاج عام للسكان كتداع عفوي للانتهاكات، إلا أن ما يدور خلف الكواليس يثير العديد من التساؤلات. فعملية التسليح في المنطقة يقف وراءها عناصر بارزون من حزب المؤتمر الوطني مستندين إلى خطاب تعبوي جهوي. هذا التدخل من قبل قوى سياسية ذات أجندات خاصة يحول ما يفترض أن يكون مقاومة شعبية إلى أداة لتعزيز نفوذ سياسي، ما يزيد من تعقيد المشهد ويهدد بتحويل الصراع إلى حرب بالوكالة.
شهود العيان يروون قصصاً مقلقة عن عمليات تسليح مكثفة للمواطنين، والسماح لهم باقتناء وحمل شتى أنواع الأسلحة في الأسواق والمرافق العامة. لقد أصبحت مواكب المدنيين المسلحين، برفقة سيارات من الجيش وجهاز الأمن، مشهداً مألوفاً في مناطق واسعة بولاية نهر النيل. هذه المشاهد، التي تعكس حالة من الفوضى المتصاعدة، تزيد من مخاطر العنف والجريمة داخل المجتمعات المحلية. ومما يزيد الأمر سوءاً، أن المعلومات تشير إلى أن عمليات التسليح في محلية شندي تقودها "غرفة متكاملة" من عناصر حزب المؤتمر الوطني، بمن فيهم قادة ووزراء سابقون وقادة في الدفاع الشعبي، الذين يطلبون من شيوخ القرى قوائم الشباب المتطوعين لتسليحهم. هذا التجييش المنظم، الذي يعتمد على عنصر القبلية في بعض الأحيان، يهدد بتأجيج نار الفتنة القبلية، وإشعال شرارة صراع داخلي أوسع نطاقاً.
بينما يؤيد البعض، وربما الحكومة، قيام ما يسمى بـ "المستنفرين" أو "قوات البراء بن مالك" بحجة الدفاع عن النفس من انتهاكات قوات الدعم السريع، فإن الكثير من المواطنين يرون في هذه الخطوة "صب الزيت على النار". إنهم يخشون أن تؤدي هذه الممارسات إلى إطالة أمد الحرب وتقليل فرص التسوية السلمية، بل والأدهى من ذلك، أن تؤدي إلى حرب أهلية مدمرة. المواطنون في شندي باتوا يرون في امتلاك السلاح "فرض عين" للدفاع عن النفس، وهو ما يعكس حالة اليأس والخوف التي يعيشونها. ومع ذلك، يرى آخرون أن ما يحدث ليس مقاومة شعبية، بل "تجييش وتجنيد وتشكيل لميليشيات جديدة"، لا سيما وأن جزءاً كبيراً من هذه الحشود ينضم للقتال مع كتائب "البراء بن مالك"، إحدى أذرع الحركة الإسلامية.
يشير الخبراء العسكريون إلى أن ما يعرف بالمقاومة الشعبية هو نتاج لسببين رئيسيين: عدم قدرة الجيش على حسم الحرب، والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بحق المدنيين. ويرون أن حل النزاع في السودان، في ظل هذا الحشد الميليشياوي، سيكون عملية معقدة للغاية، بل سيسهم في تصعيد الصراع. فكلما ازداد تسليح المدنيين، زادت فرصة التسليح المضاد، ما يقود البلاد نحو حرب أهلية شاملة. إن ظهور أسواق لبيع السلاح علانية في شندي، حيث يبلغ سعر البندقية الكلاشنكوف الجديد مليون وثلاثمائة ألف جنيه سوداني، والطبنجة التركية(المسدس) 9 ملم تسعمائة وخمسين ألف جنيه، هو دليل صارخ على مدى تدهور الأوضاع وتحول السلاح إلى سلعة رائجة.
في هذا المشهد المعقد والخطير، يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن السودان من الخروج من هذه الدوامة العنيفة، أم أن تسليح المدنيين سيجره إلى هاوية الحرب الأهلية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقع على عاتق الأطراف المتحاربة، التي يجب أن تدرك أن السلاح ليس حلاً، وأن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا عبر طاولة المفاوضات والتنازلات المتبادلة. فالمستقبل في شندي، كما في بقية أنحاء السودان، يعتمد على قدرة هذه الأطراف على وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ونزع فتيل الحرب قبل فوات الأوان.