كوستي-سودان سكوب
تعبتُ من الالتفاف على الكلمات، من البحث عن معنى في فوضى الحرب. هذه المرة سأترك الأرقام والتواريخ جانبًا، وأخبرك عن مئة حلم على الطريق، عن مئة طالبة من دارفور خرجن من تحت ركام الخوف، يحملن كتبًا لا أسلحة، وأحلامًا أكبر من صوت الرصاص.
الرحلة التي تبدأ بالصمت
في نيالا، حيث أصبح الصمت أحيانًا أشد رعبًا من الضجيج، بدأت القصة. لم تكن مجرد رحلة، بل كانت قرارًا جماعيًا، تمردًا ناعمًا على واقع يرفض أن يمنحهن مستقبلًا. خرجت الفتيات في مجموعات، بعضهن برفقة أمهاتهن اللاتي حملن معهن الخوف والأمل، وبعضهن بمفردهن، شجاعتهن هي زادهن الوحيد. كانت الطريق طويلة، محفوفة بالمجهول، لم يكن الهدف فقط الوصول إلى كوستي، بل الوصول إلى فرصة، إلى مقعد في قاعة امتحان، إلى حلم طالما رسمته في مخيلتها منذ كانت طفلة.
ولكن الطريق لم تكن سهلة، ففي منتصف الصحراء، حيث تتلاشى كل ملامح الأمان، أوقفتهن "قوات الدعم السريع". ثلاثة أيام من الانتظار، من الأسئلة التي لا تنتهي، من الخوف الذي يتسلل إلى القلوب. كانت الأمهات يمسكن بأيدي بناتهن، يتهامسن بالدعوات، بينما كانت الفتيات ينظرن إلى الأفق البعيد، حيث تنتظر الشهادة السودانية، كأنها وعد بمستقبل أفضل يخرجهم من مطاردة اشباح الحرب لهن. وبعد انتظار مرير، سُمح لهن بمواصلة المسير، وكأن الرحلة نفسها كانت امتحانًا آخر في الصمود.
كوستي.. الواحة الموعودة
عندما وصلت الفتيات إلى مدينة كوستي، لم يكن مجرد وصول، بل كان احتفالًا بالنجاة. استقبلتهن "داخلية صفية اسكودر" كأنها واحة بعد صحراء، مكانًا آمنًا لترتيب الأحلام المبعثرة. في هذا المكان، لم يعدن مجرد طالبات ناجيات من الحرب، بل أصبحن بطلات، ملهمات لمجتمع كوستي الذي رحب بهن وكأنهن جزء منه
هناك، لم ينسَ أحد أنهن يحتجن لأكثر من مجرد سقف يأويهن. فقد انطلقت مبادرات إنسانية لتقديم الدعم، من خلال "منظمة سيفاو" و"منظمة ندي الأزهار"، وبدعم من "صندوق الأمم المتحدة للسكان". كانت أطقم الكرامة التي وزعت عليهن - من فوط صحية وملابس داخلية وصابون - ليست مجرد مواد إغاثية، بل كانت رسالة: "نحن نراكن، ونقدر معاناتكن، وندعم أحلامكن". كانت اللمبات الصغيرة التي تعمل بالطاقة الشمسية أكثر من مجرد ضوء، كانت رمزًا للمستقبل الذي ينتظرهن
حكايات متشابهة.. مصائر مختلفة
لكن قصة هؤلاء الفتيات ليست سوى الجزء الممتلئ من الكوب ، ففي مكان آخر، في الجزيرة وسنار، حرمت طالبات من فرصة أداء الامتحانات، بسبب قرارات عشوائية ومزاجية لم تأخذ في الحسبان أحلامهن. وفي الإسكندرية، كانت قصة طلاب آخرين حرموا من الامتحانات، لتكتمل صورة الحرب التي لا تفرق بين مكان وآخر، ولا بين حلم وآخر. والتعذر بالحرب والقتال الذي يصدر من مكاتب المسئولين تقابله من الناحية الأخرى تجارب استثنائية سابقة، مثل تجربة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، التي أخذت على عاتقها خلال سنوات طويلة مسؤولية نقل الطلاب من مناطق سيطرتها إلى مناطق الحكومة للامتحانات ثم إعادتهم سالمين، وكأنها تقول: "حتى في زمن الحرب، التعليم حق لا يمكن التنازل عنه". هذه القصص المتناقضة تظهر أن مصير الطلاب أصبح رهينة لمزاج القيادات الميدانية، وأن مستقبل السودان يضيع بين إهمال طرف واهتمام طرف آخر.
إن قصة طالبات دارفور هي قصة كل شاب سوداني يرفض أن تكون الحرب هي نهاية حكايته. هي صرخة في وجه من استهتروا بمستقبل جيل كامل، صرخة تقول إن التعليم ليس ترفًا، بل هو الطريق الوحيد نحو بناء سودان جديد، سودان لا تلتهم فيه الحرب الأحلام، بل تُنير فيه النجاحات شموعًا لتضيء الطريق للأجيال القادمة.