الخرطوم-سودان سكوب
في خضم الفوضى واليأس، تبرز قصص عن صعود أنظمة بديلة تُعيد تشكيل المجتمعات. في السودان، حيث لا تزال الحرب تدمر البلاد، نشهد ظاهرة فريدة من نوعها: صعود "غرف الطوارئ". هذه المجموعات، التي ولدت من رحم المأساة، ليست مجرد استجابة إنسانية؛ بل هي تجسيد لمجتمع منظم يتولى زمام أموره بنفسه. إنها قصة عن قدرة المواطنين على سد الفراغ الذي تركته الدولة الغائبة، وهو درس تستحق أن تدرسه الحكومات والمؤسسات الدولية.
من جائحة إلى حرب... كيف تحولت غرف الطوارئ؟
لم تكن غرف الطوارئ مجرد اختراع وليد اللحظة. لقد كانت بذورها الأولى تكمن في رحم ثورة ديسمبر، حيث كانت لجان المقاومة الشبابية قد أسست بالفعل شبكة من التضامن والتعاون. لكن الفكرة تبلورت فعليًا خلال جائحة كوفيد-19، عندما ظهرت أول غرفة طوارئ صحية. كانت مهمتها بسيطة ومحددة: تقديم المساعدة الطبية في غياب الدعم الحكومي.
لكن الأحداث الجسام التي شهدها السودان غيَّرت كل شيء. مع اندلاع الحرب في الخرطوم عام 2023، انهارت كل المؤسسات الخدمية، وانتشر العنف، وتدهورت الأوضاع المعيشية والصحية بشكل كارثي. هنا، أظهرت غرف الطوارئ مرونتها وقدرتها على التكيف. لم تعد مجرد مجموعات صحية، بل تحولت إلى مراكز استجابة شاملة تُعنى بالإغاثة، والإجلاء، والعلاج في مناطق النزاع.
هيكل تنظيمي مرن ولامركزي
السر وراء نجاح هذه الغرف هو هيكلها التنظيمي الفريد. على عكس الهيئات البيروقراطية الثقيلة، تعمل غرف الطوارئ على مبدأ الحكم المحلي واللامركزية. تتكون من ثلاثة مستويات: المحليات، ثم المجالس الولائية، وأخيراً المجلس القومي الذي يربط الولايات ببعضها البعض.
الأهم من ذلك، أن هذه المجالس لا تمارس أي سلطة تنفيذية. مهمتها الأساسية هي التنسيق، داخليًا بين الغرف، وخارجيًا مع المانحين والشركاء الدوليين. إنها لا تسعى لتكون حكومة بديلة، بل هي نظام تشاركي يمنح كل حي أو قرية الحق في تشكيل غرفة طوارئ خاصة به. هذا النموذج الفيدرالي الفعلي هو ما يجعلها قوية وفعالة، حيث يمكنها الاستجابة بسرعة للاحتياجات المحلية دون انتظار أوامر من أعلى.
هذا النموذج اللامركزي، القائم على مفاهيم مثل الشفافية، والمحاسبة، والمشاركة المجتمعية، يُذكرنا بأن الحلول للمشاكل الكبرى لا تكمن دائمًا في الهياكل المركزية، بل في تمكين الأفراد والمجتمعات على المستوى القاعدي.
انجازات دولية وتحديات جسيمة
لقد نالت غرف الطوارئ اعترافًا دوليًا واسعًا بفضل جهودها الجبارة. فوزها بجائزة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان لعام 2024، وترشيحها لجائزة نوبل للسلام، هما دليلان على حجم التأثير الذي أحدثته. لقد نجحت هذه المجموعات في بناء شراكات مع كبرى المنظمات الدولية مثل اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، مما مكّنها من العمل في قطاعات حيوية مثل الصحة، والأمن الغذائي، والإجلاء، والتعليم.
لكن هذا النجاح لم يأتِ بدون ثمن. يواجه المتطوعون تحديات أمنية كبيرة، من العنف والاعتقال والاختطاف، إلى القيود التي تفرضها السلطات الحاكمة. لقد حان الوقت للمجتمع الدولي للتحرك وحماية هؤلاء الأبطال. يجب أن تتجاوز المنظمات الحقوقية مجرد الإدانة، وأن تدفع نحو إدراج بند صريح لحماية المتطوعين في اجتماعات الأمم المتحدة، أسوة بعمال الإغاثة الدوليين.
نظرة إلى المستقبل: هل هي مجرد إغاثة أم بذور لدولة جديدة؟
إن غرف الطوارئ في السودان هي أكثر من مجرد استجابة مؤقتة للأزمة. إنها تطور طبيعي لروح الثورة، وهي تُمثل رؤية لمستقبل مختلف.
إن النقاشات التي تدور حاليًا داخل هذه الغرف حول تحولها إلى "لجان سلام وتنمية" بعد الحرب، تُظهر أن الشباب السوداني لا يفكر في البقاء في دائرة الإغاثة، بل يخطط لبناء دولة جديدة على أسس من الشفافية والمشاركة.
هذه الظاهرة ليست حصرية على السودان. في عالم يزداد فيه انعدام الاستقرار، قد تُصبح مثل هذه المبادرات المجتمعية هي الحل للعديد من الدول. إنها تذكير بأن الدولة الحقيقية لا تكمن فقط في مؤسساتها الرسمية، بل في قدرة مواطنيها على التنظيم والتعاون من أجل مستقبل أفضل. السؤال المطروح الآن هو: هل ستتحول هذه البذور إلى شجرة باسقة تُظلل السودان الجديد؟ وهل سيستطيع المجتمع الدولي تقديم الدعم اللازم لها لتحقيق هذه الرؤية؟