تقرير-سودان سكوب

حدث قد يبدو صغيرًا، لكنه يحمل في طياته دلالات عميقة حول مستقبل الإنسانية. في مدينة بيرغن النرويجية، منحت مؤسسة "رافتو" لحقوق الإنسان جائزتها المرموقة لـ "غرف الطوارئ" السودانية، وهي شبكة من المتطوعين الشجعان الذين يعملون على إنقاذ الأرواح وسط الفوضى العارمة و الحرب التي تدور رحاها بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع . هذا التكريم ليس مجرد جائزة، بل هو اعتراف بظاهرة تستحق اهتمام العالم، وربما تكون خطوة أولى نحو تتويج أكبر وأكثر تأثيرًا: جائزة نوبل للسلام.

عندما ننظر إلى التاريخ، نجد أن جائزة "رافتو" غالبًا ما تكون مؤشرًا دقيقًا على مستقبل جائزة نوبل. هناك نمط واضح يتكرر: أون سان سو تشي من ميانمار، خوسيه راموس هورتا من تيمور الشرقية، كيم داي جونج من كوريا الجنوبية، وشيرين عبادي من إيران. كل منهم نال جائزة "رافتو" قبل أن يُتوج بجائزة نوبل للسلام. هذا ليس محض صدفة؛ فمؤسسة "رافتو" تُعرف بقدرتها على تحديد الشخصيات والمنظمات التي تعمل في أكثر المناطق ظلمة، والتي لم تنل بعد التقدير العالمي المستحق.

"غرف الطوارئ" السودانية هي تجسيد مثالي لهذه الفلسفة. إنها لم تولد من رحم المؤسسات الرسمية أو المنظمات الدولية الكبرى، بل نشأت من لجان المقاومة الشعبية التي قادت الثورة ضد نظام عمر البشير. إنها حركة مدنية خالصة، تتكون من أفراد عاديين قرروا عدم الاستسلام لليأس، بل مواجهة الفوضى بإجراءات عملية وبسيطة. يقوم هؤلاء المتطوعون، الذين لا يملكون سوى إرادتهم، بتوفير الغذاء والدواء، وإجلاء المصابين، وكل ذلك في ظل تهديد مستمر بالاعتقال أو القتل.

ما هو أعمق من الإغاثة؟

العمل الذي تقوم به "غرف الطوارئ" يتجاوز بكثير مجرد الإغاثة الطارئة. إنه عمل بناء مجتمعي في أشد لحظات التدمير. ففي ظل الانهيار الشامل للبنية التحتية، يتولى المتطوعون توفير المأوى للنازحين، وتحويل المنازل والمدارس إلى ملاجئ آمنة. كما يمتد عملهم إلى الجانب الإنساني الأكثر هشاشة: الدعم النفسي. فهم يقدمون الدعم للناجين والناجيات من العنف، وخاصة العنف القائم على النوع الاجتماعي، مما يوفر لهم مساحة آمنة للتعافي في مجتمع مزقته الصدمات.

لكن ربما يكون العمل الأكثر أهمية، والأكثر دلالة على إمكانية السلام، هو جهودهم في مناهضة خطاب الكراهية. في الوقت الذي تتقاتل فيه الأطراف المسلحة على السلطة وتغذي الانقسامات، تنظم "غرف الطوارئ" حوارات التعايش السلمي على المستوى المحلي. إنهم يبنون جسورًا من الثقة بين المجموعات المختلفة، ويقدمون بذلك بديلًا للمنطق العسكري المدمر. إنهم لا يدافعون عن طرف ضد آخر، بل عن الإنسان ضد الحرب.

جسر نحو نوبل

جائزة نوبل للسلام، التي غالبًا ما تُمنح لجهود إنهاء الصراعات، يجب أن تتوسع لتشمل أولئك الذين يحافظون على بذرة السلام في أصعب الظروف. "غرف الطوارئ" لا تحاول إنهاء الحرب، بل إنها تمنع الحرب من القضاء على المجتمع بالكامل. إنهم يدافعون عن الحق الأساسي في الحياة والكرامة، وهو الشرط المسبق لأي سلام دائم.

إن منح جائزة نوبل لـ"غرف الطوارئ" لن يكون مجرد تكريم لجهودهم البطولية، بل سيكون رسالة قوية إلى العالم بأن الأمل يمكن أن يولد من رحم المعاناة، وأن الحلول الحقيقية تأتي من القاعدة، لا من القمة. إنها رسالة مفادها أن كل فرد، حتى في خضم أزمة لا تُحتمل، يمكنه أن يساهم في بناء مستقبل أفضل. وبهذا المعنى، فإنهم يستحقون أن ينضموا إلى قائمة الفائزين العظماء، وأن يكونوا رمزًا لسلام لم يتحقق بعد، ولكنه لا يزال ممكنًا.