عمر محمود

في قلب الموانئ السودانية، حيث تتقاطع أمواج البحر مع صخب الحديد وزمجرة الحاويات، ينبض وطن كامل بعرق وسواعد أبنائه. عمال موانئ البحر الأحمر – في بورتسودان وسواكن – لم يكونوا يوماً مجرد عمال على أرصفة الشحن والتفريغ، بل كانوا وما زالوا ضميراً وطنياً حياً، وسداً منيعاً في وجه التهميش والتفريط، وحجر زاوية في كل لحظة مفصلية من تاريخ السودان السياسي والاجتماعي.

منذ الحقبة الاستعمارية، حمل هؤلاء العمال الوعي قبل السلاح، وفهموا أن الاستقلال لا يُمنح بل يُنتزع، فكانوا في طليعة من استخدموا أدواتهم البسيطة – الإضراب، العصيان، والتنظيم النقابي – كسلاح فعّال في وجه الظلم والاستعمار. لقد كانت حركتهم العمالية أول من ترجم رفض الشعب السوداني إلى فعل سياسي ملموس، عطل المصالح الاستعمارية، وأحرج القوى الدولية، وأعاد تعريف الوطنية من جديد.

لكن دورهم لم يتوقف عند حقبة التحرر. فعندما نادى الوطن في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018، كان عمال الموانئ أول من لبى النداء. لم يكتفوا بالمطالبة بحقوقهم، بل صاغوا معاني الانحياز للكرامة الشعبية، وشاركوا في تشكيل ملامح الدولة الجديدة عبر الإضرابات والمقاومة السلمية، رافضين كل أشكال البطش والفساد والاستبداد.

وفي مواجهة سياسات الخصخصة التي استهدفت الموانئ، لم يكن صوتهم الرافض تعبيراً عن الخوف على الوظيفة، بل موقفاً سيادياً بالغ العمق. لقد فهموا أن الموانئ ليست مجرد منشآت اقتصادية، بل خطوط تماس للسيادة الوطنية. فرفعوا شعار "الموانئ ليست للبيع"، في زمن كان فيه الصمت هو القاعدة. وأثبتوا أنهم ليسوا فقط عمالاً مهنيين، بل مواطنون مسؤولون يقفون في الخطوط الأمامية لحماية مقدرات البلاد.

نقاباتهم، التي شكّلوا بنيانها بالوعي والكفاح، لم تكن كيانات مطلبية ضيقة، بل جسوراً للعدالة الاجتماعية، ومنصات للدفاع عن المصلحة الوطنية الشاملة. لم يسقطوا في فخ العزلة النقابية، بل أسهموا في بلورة خطاب وطني جامع، يربط بين الحقوق الاقتصادية والسياسية، ويؤمن بأن التهميش الاجتماعي لا ينفصل عن الاستبداد السياسي.

لقد آن الأوان لأن يُعاد الاعتبار لعمال الموانئ كركائز لبناء الدولة السودانية الحديثة. آن الأوان لأن يُكتَب تاريخهم في المناهج، وأن تُدرس تجاربهم في الجامعات، لا بوصفها تواريخ محلية، بل كجزء أصيل من المشروع الوطني الأكبر للتحرر والعدالة والكرامة.

إن تجاهل هذه الفئة، التي تقف على خط النار بين الدولة والمجتمع، هو إضعاف لمناعة الوطن نفسه. فهؤلاء الذين صمدوا في وجه الديكتاتوريات، وأوقفوا خصخصة الوطن بأجسادهم، وأعادوا تعريف النضال في زمن الخذلان، هم من يستحقون أن يكونوا في قلب السياسات، لا على هامشها.

في خضم الحرب والانقسام، يظل عمال الموانئ هم الأمل الأخير في استعادة التوازن، ليس فقط لأنهم يحملون على أكتافهم اقتصاد البلاد، بل لأنهم أثبتوا أنهم أيضاً يحملون ضميرها ووجدانها.

فليكن لهم موقع في صناعة القرار، وصوت في الإعلام، وشراكة في التخطيط. لأن من وقف وقت الشدة، يستحق أن يُجلس وقت السلم.

ختاماً، إن عمال الموانئ السودانية ليسوا فقط "عمالقة الظل"، بل هم صُنّاع السيادة، وحماة المستقبل، وركائز التغيير الحقيقي.