تعد مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور نموذجاً صارخاً للانهيار البنيوي الذي يمكن أن يحل بمدينة بأكملها نتيجة للصراعات المسلحة والإهمال المزمن، تتحول نيالا ببطء إلى مدينة أشباح، حيث تتآكل أسس الحياة المدنية يوماً بعد يوم، فبرغم سيطرة قوات الدعم السريع عليها منذ قرابة العامين إلا أن المدينة تعيش فوضى أمنية لم تتمكن القيادة الجديدة من فرض سيطرتها على المدينة، وما يزيد من تعقيد المشهد ويثير تساؤلات أعمق حول مصير نيالا، هو الأنباء عن تحولها إلى عاصمة لحكومة تحالف تأسيس الجديدة، بقيادة حميدتي ونائبه عبد العزيز الحلو.
سنحاول في هذا التقرير تسليط الضوء على البنية التحتية للمدينة التي انهارت تماما بفعل الحرب، ونطرح التساؤلات حول قدرة النظام الجديد على النهوض بها من الرماد، لتستضيف الحكومة التي ستعلن قريباً.
البنية التحتية الصحية.. نظام على وشك الانهيار يواجه تحديات مضاعفة
في قلب الأزمة الإنسانية التي تعصف بمدينة نيالا، يكمن الانهيار شبه الكامل للقطاع الصحي، فمن بين العديد من المستشفيات التي كانت تخدم المدينة قبل الحرب، لم يتبق سوى ثلاثة تعمل بصعوبة بالغة: مستشفى نيالا التعليمي، والمستشفى التركي، ومستشفى نيالا التخصصي، وكلها تعاني من نقص حاد في الادوية والامدادات الطبية الحيوية خاصة لذوي الأمراض المزمنة، وهذه المؤسسات الثلاث تكافح لتلبية الاحتياجات الصحية لسكان المدينة، الذين تزايدت معاناتهم بشكل كبير. والأدهى من ذلك هو أن معظم الكوادر الصحية المتخصصة قد تركت المدينة بحثاً عن الأمان، مخلفة وراءها فجوة هائلة في القدرة على تقديم الرعاية الطبية الأساسية. هذا النقص الحاد في الكوادر يعني أن حتى المستشفيات القليلة العاملة تكاد تكون عاجزة عن تقديم الخدمات اللازمة، ما يهدد حياة الآلاف، كما نشير إلى خدمات غسيل الكلى مثلا كانت مجان في السابق والان تكلف أموالاً باهظة لا يقوى سكان نيالا ولا الذين قدموا إليها بفعل الحرب تحمل تكلفة العلاج، كما أن هناك حالات وفيات للأمهات والأطفال بسبب النقص الحاد في خدمات الصحة الإنجابية خصوصا الحضانات التي تمت سرقة معظمها وما تبقى معطل. ومع التطلعات الجديدة لدور نيالا السياسي، فإن الضغط على هذا القطاع المتهالك سيتضاعف بشكل كبير، فهل يمكن لنظام صحي على حافة الانهيار أن يخدم متطلبات مركز سياسي؟

التعليم.. جيل ضائع في أنقاض المدارس ومستقبل مجهول
مستقبل أي مجتمع يرتكز على قدرته على تعليم أجياله القادمة. في نيالا، يبدو هذا المستقبل غامضاً ومحاطاً بالظلام. فمعظم المدارس تعرضت لأعمال التخريب والقصف الجوي، من بينها مدارس بارزة مثل أم المؤمنين بنات ونيالا الثانوية. أما المدارس التي نجت من الدمار، فقد تحولت إلى ملاجئ للنازحين، ما يعني أن العملية التعليمية توقفت بشكل كامل. هذا الوضع لا يمثل مجرد عقبة مؤقتة، بل هو كارثة حقيقية تهدد بتكوين جيل كامل محروماً من التعليم الأساسي، ما سيزيد من تعقيد تحديات إعادة الإعمار في المستقبل، خاصة في وجود معلومات عن ارتباط تزايد الجريمة بتوقف التعليم الثانوي بشكل خاص، كما انخرط من أصابه اليأس أو الحاجة إلى الانخراط في الأعمال القتالية، مما يشير إلى ابتعاده كليا عن المسار التعليمي.
الطاقة والخدمات الحكومية.. مدينة تعيش في الظلام
تتجسد الأزمة في نيالا بشكل ملموس في غياب الكهرباء، فمن المعلوم أن إقليم دارفور بشكل عام غير مرتبط بالشبكة القومية للكهرباء، وفشلت محاولات الربط خلال السنوات السابقة بسبب ضعف الإمكانيات في المرحلة الأولى ولاحقا بسبب الحرب المندلعة في الإقليم منذ قرابة ربع قرن، وعند اشتعال حرب 15 أبريل تسببت في تدمير معظم أعمدة نقل التيار الكهربائي جراء القصف، ما ترك المدينة غارقة في الظلام الدامس. حاليا يعتمد السكان الآن على الطاقة الشمسية كوسيلة وحيدة للإنارة، وهو حل لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يلبي احتياجات مدينة بهذا الحجم. أما المؤسسات الحكومية، التي تمثل العمود الفقري للإدارة المدنية، فقد تعرضت للنهب والتخريب، وتحول بعضها إلى سجون مؤقتة. هذا الوضع يعني أن الخدمات الإدارية الأساسية متوقفة تماماً، ما يزيد من حالة الفوضى وعدم الاستقرار. إن هذا الواقع المظلم يلقي بظلاله على قدرة المدينة على استضافة أي شكل من أشكال الإدارة الحكومية الفعالة.
الطرق والبضائع.. شريان حياة مقطوع في قلب الطموحات الجديدة
على الرغم من أن الطرق الداخلية التي تربط الأحياء في نيالا لا تزال بحالة جيدة نسبياً، إلا أن الطرق الخارجية التي تربط الولاية بالمناطق الأخرى تعاني من إهمال كارثي. هناك طريق واحد يربط الولاية بولاية غرب دارفور، لكنه لا يصل إلا إلى مدينة نيرتتي، تاركاً نيالا معزولة جزئياً. أما الطريق الحيوي الذي يربط نيالا بمدينة الضعين، فهو غير موجود فعلياً، بل يتكون من أودية وخيران، ما يجعل حركة السير عليه شبه مستحيلة، خاصة في فصل الخريف.
هذه العزلة اللوجستية لها تبعات وخيمة على توفر السلع الأساسية. فالبضائع الاستهلاكية تعاني من ندرة تامة، والأسعار تشهد ارتفاعاً جنونياً. يعود السبب في ذلك إلى صعوبة وصول الشاحنات المحملة بالبضائع، ليس فقط بسبب وعورة الطرق، بل أيضاً بسبب الإجراءات الأمنية المعقدة. هذا الوضع يفاقم من معاناة السكان الذين يواجهون صعوبة بالغة في تأمين أبسط احتياجاتهم اليومية.
المياه.. أزمة وجودية تعيق كل مسعى
في مدينة تعاني من كل هذه الأزمات، تبرز مشكلة المياه كأزمة وجودية حقيقية. تعاني نيالا من نقص حاد في خدمات المياه، والوسيلة الوحيدة لنقل المياه هي الطرق التقليدية البدائية مثل "الكارو" وأحياناً الصهاريج "التناكر". هذا النقص في المياه النظيفة والصالحة للشرب يهدد الصحة العامة بنقل الأمراض والوبائيات المتعلقة بالمياه، ويزيد من عبء الحياة اليومية على كاهل السكان الذين يكافحون من أجل البقاء. إنه تحدٍ أساسي يواجه أي محاولة لإعادة الحياة إلى طبيعتها في المدينة.
نيالا اليوم هي قصة مدينة تتعرض للتآكل من الداخل، حيث تتهاوى بنيتها التحتية وتتلاشى خدماتها الأساسية.. إنه تذكير مؤلم بما يمكن أن تفعله الصراعات والحروب والإهمال بمدن كانت يوماً ما مراكز للحياة والنشاط.