شندي-سودان سكوب
مع استمرار الحرب في السودان التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل، تبرز ظاهرة جديدة ومقلقة تُهدد النسيج الاجتماعي والقانوني للبلاد "نهب الممتلكات الخاصة للمواطنين". فبينما يُجرم القانون الدولي والمحلي النهب ويُعرّفه بأنه الاستيلاء على الممتلكات بالإكراه، تظهر في السودان ممارسات تُشرّع هذا الفعل، وتُثير تساؤلات حول مستقبل حقوق المواطنين.
في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، تنص المادة 33 صراحة على أن المال المنهوب هو كل ما يُستولى عليه بالقوة ودون رضا مالكه. ومع ذلك، تشهد بعض المدن السودانية، مثل شندي بولاية نهر النيل، انتشارًا لأسواق تُباع فيها ممتلكات المواطنين المنهوبة بأسعار زهيدة، وذلك على مرأى ومسمع السلطات المحلية.
وجود أسواق المنهوبات في شندي كان لافتاً لعدة أسباب، أولها أن هذه الأسواق بدأت في الخرطوم من قبل الطرفين في ظل اشتعال الحرب، وكان هناك مبرر لعدم قدرة طرفي النزاع على منع تفشي ظاهرة اللصوصية في المجتمع بسبب استمرار المعارك، وكانت معظم المنهوبات تعرض في مناطق قريبة حيث تسهل حركة النقل، لهذا كان اللافت في منهوبات أسواق شندي أن هذه الممتلكات نقلت إلى مسافات بعيدة جداً بتواطؤ واضح من قبل الأجهزة النظامية التي يشارك أفرادها في التجارة غير الشرعية كتجار وكمستهلكين، كما أن مبررات عدم ضبط هذه الاجرام بسبب المعارك لا أساس لها في شندي التي لم يطأها الخصم.. هناك نقطة أخيرة في الاهتمام بسوق منهوبات شندي وهي الانطباع السائد لدى الفئة الكبرى من سكان الخرطوم أن قوات الدعم السريع فقط من نهبت ممتلكاتهم وذهبت بها غرباً!
"غنيمة حرب" أم سرقة موصوفة؟
تناقلت منصات إخبارية محلية وإقليمية قبل أيام تصريحاً لوكيلة وزارة العدل السودانية الأستاذة/ هويدا علي عوض الكريم مفاده أن الوزارة طلبت فتوى من المحامي العام للتعامل مع المنهوبات التي تزدحم بها مخازن الولايات، وجاءت التصريحات في سياق واضح أن الدولة تبحث عن صيغة قانونية للاستيلاء على هذه الممتلكات المنهوبة الامر الذي أثار عاصفة من الجدل، هذه الفتوى التي قد تُشرّع للدولة بيع هذه الممتلكات بحجة "عدم وجود صاحب لها"، مما يهدد بتأسيس سابقة قانونية خطيرة في بلد يعاني من تداعيات حرب مدمّرة.
وفي هذا الصدد، تؤكد المحامية "ش. عبد الله" أن القانون الجنائي السوداني يُجرم النهب بشكل واضح، ولا يُجيز للدولة امتلاك هذه الأموال. وتوضح أن التملّك لا يتم عبر النهب غير المشروع، وبالتالي لا يحق للدولة التصرف في حقوق المواطنين أو تحويل عائداتها إلى خزينة الدولة. وحذرت من أن أي إجراءات من هذا القبيل ستواجه معارضة قوية من المواطنين، خاصة وأن هذه الممتلكات تمثل كل ما تبقى لضحايا فقدوا كل شيء.. فيما أشار مواطن - فضًل عدم ذكر اسمه – إلى أن هذه الفتوى في حال صدرت بالاستيلاء على ممتلكات المواطنين لصالح الدولة فقد تفتح الباب واسعاً أمام تجارة المنهوبات التي تعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وهذه خطوة مدمر لسلوك المواطنين الجمعي.
أسواق للمنهوبات تُعزز ثقافة النهب.
في مدينة شندي، تنتشر أسواق تُخصص لبيع المنهوبات من الأثاث والأدوات الكهربائية والأواني المنزلية. ففي سوق شندي الكبير، تُباع الثلاجات والمكيفات، وفي سوق "الديم" تُعرض أواني منزلية فخمة، بينما يُمكن في السوق الشعبي "دلالة" الحصول على كل ما يخطر بالبال بأسعار لا تُصدق.
يقول أحد المواطنين: "لم نكن طرفًا في القتال، لكننا دفعنا الثمن من ممتلكاتنا. مثلما للحرب قتلى وجرحى، فلها أيضًا أثرياء ومتربحون". ويُشير إلى أن هذه الظواهر تُغير التركيبة الاجتماعية في المدينة، وتُشجع على الجشع وتفاقم ظاهرة النهب". تُظهر الشهادات من داخل المدينة كيف يُشارك في هذه التجارة تجار وجنود يعودون من القتال، ويقومون ببيع ممتلكات المواطنين بأسعار زهيدة. يُستغل هذا الوضع من قبل ضعاف النفوس، الذين يُخزنون المسروقات لبيعها لاحقًا، في ظل غض السلطات الطرف عن هذه التجارة غير المشروعة.
"غنيمة… " مبرر لسرقة البيوت
مع نهاية معارك الخرطوم، دخلت مدينة شندي أعداداً كبيرةً من العسكريين محملين بما أسُمي بـ "غنائم الخرطوم"، سيارات، ركشات، أثاث فاخر، وأجهزة كهربائية كانت تُباع بأسعار لا تُقارن بأسعار السوق. أحد الجنود العائدين من القتال يقول لمن حوله إنه يبيع هذه الممتلكات على أقساط، مُبررًا ذلك بأنها "غنيمة حرب" وليس لها صاحب، خاصة وأنه قد قدّم روحه في القتال.
هذه التناقضات بين النصوص القانونية والأخلاقية، وبين الواقع المُعاش، تضع المجتمع أمام اختبار حقيقي. فهل ستنتصر القيم والأمانة، أم ستُشرّع الظروف الاستثنائية لـ "قانون الغاب" حيث القوي يأكل الضعيف؟ هذه التساؤلات تُعقد المشهد وتُشكل تحديًا كبيرًا لمستقبل البلاد.