د/ عزة مصطفى
لقد أثبتت التجارب الدولية والإقليمية، التي شهدت حروبًا وصراعات، أن الحروب تتوقف في نهاية المطاف بوسائل متعددة، أبرزها الوصول إلى اتفاق بين أطرافها، على الرغم من استمرارها لسنوات وشهور. لم يكن هناك رابح، لأن المنتصر في طبيعة الحال خاسر.
الحرب التي يشهدها السودان لن تكون مختلفة عن تلك الحروب، فمهما طالت أو قصرت ستنتهي بوسيلة ما، ومن المؤكد أن الرابح خاسر، والخاسر الأكبر هو الوطن السودان. السودان الذي خسر شبابه، وخسر الاتفاق، وخسر الأمان، وخسر إمكانية بناء دولة تتعايش بسلام في مساحات شاسعة تتسع للجميع.
لقد اختلفت الآراء والمواقف حول قيام الحرب بين من يعتقدون أنها قامت لأسباب سياسية وطموح مجموعات تحاول السيطرة على الحكم، ومجموعات أخرى سيطرت على دولة ما بعد الاستقلال (دولة الشريط النيلي) وفرضت هيمنتها الثقافية والعرقية والدينية على جميع مناطق البلاد الأخرى ذات الخصوصيات الثقافية والعرقية والدينية. بغض النظر عن اختلاف المجموعات التي تبرر أو تدعم أحد طرفي الحرب، فالنتيجة والمحصلة النهائية هي أن الجميع تضرر منها. من المؤكد أن إدراك الخسائر الناتجة عنها معلوم للجميع، سواء المنخرطين بشكل مباشر أو غير مباشر، أو أولئك الذين ليس لهم ناقة ولا جمل ولكن شاءت أقدارهم أن يكونوا الحلقة الأضعف في هذا الصراع. كل طرف يرى أن موقفه هو الصحيح وأن الحق بجانبه، لكن ما يهمنا هو أن النتيجة واحدة وتلوح في الأفق للجميع: دمار وخراب مشهود. تتضارب المصالح الدولية والإقليمية في حرب السودان بين داعم لطرف ومؤيد لآخر، وأنتم أدرى بأن الأطراف المتدخلة في الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة لديها ما تسعى لتحقيقه من تدخلاتها، وساذج من يظن أن المساعدات تُقدم "لسواد عيون" المدعومين، فثمة فاتورة تُخزّن كثمن يُدفع بأثر رجعي كعائد لكل هذا الدعم.
لقد استوقفني لقاء لرئيس وزراء بريطانيا السابق، بوريس جونسون، مع عمار تقي في برنامج "الصندوق الأسود"، حيث قال صراحة: "لقد قمنا بتدمير العراق ولم تكن لدينا خطة واضحة لما بعد صدام. اعتمدنا على معلومات مضللة وغير صادقة فيما يخص أسلحة الدمار الشامل. لم تكن للأمريكيين خطة حول من يخلف صدام حسين. كيف تصورنا أن هذه الخطة سوف تنجح؟ لم تنجح!" وذكر أنه في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في قبة البرلمان العراقي وحضره عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين، سألناهم: "ما هي الخطة؟" فأجابوا: "بأنهم في رحلة". كل هذا الدمار تعاملوا معه كرحلة. بلد يُدمّر، ومواطنون يموتون، ودماء تُسفك، وفي نهاية الأمر ما هي إلا رحلة. لقد أعدت مشاهدة هذا اللقاء أكثر من مرة، وقفز إلى ذهني عدد من الأسئلة والحوارات حول ما إذا كانت نهاية الحرب في السودان ستكون مجرد رحلة. رحلة غير ممتعة، سيئة التحضير، وخيمة الخسارة. رحلة لم يستمتع بها أحد غير محبي رؤية سيلان الدماء ومناظر الخراب.
من لم يعتبر بالتاريخ فالندامة تحيق به. أخشى أن تحيق الندامة بكل من دعم أو أذكى أعواد الحرب في السودان، ولومي هنا مضاعف على أبناء وبنات السودان الذين أيدوا الحرب على أنها السبيل لتحقيق مبتغاهم. وأي مبتغى يكون على أنقاض وجسد وطن هزل بسبب النزاعات والخلافات البنيوية؟ الحرب تنتهي حتمًا، شاء من شاء ورفض من رفض، ولكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية إعادة إعمار الوطن، وفي كيفية إبراء الجراح، وفي كيفية خلق آليات سودانية خالصة تعيد اللحمة لأبناء وبنات السودان.
عند انتهاء الحرب، يقع على عاتق المدنيين والمدنيات عبء إيجاد طرق ووسائل لبناء دولة مؤسسات تقوم على مشروع قومي يعيد للسودان وضعه وفاعليته إقليميًا ودوليًا، السودان الذي كان. يستحضرني هنا ما قاله بوريس جونسون عن اكتشافهم أن كل ذلك قد بُني على حسابات وتقديرات خاطئة، وأن حلها يمكن أن يكون أقل تكلفة من تعقيداتها. علينا أن نفكر جميعًا في كيفية إدارة البلد بصورة توافقية مبنية على خطة تتوافق وظروف وتكوين السودان المتعددة. نحتاج أن نفكر جديًا في كيفية إدارة فترة ما بعد الحرب، فالسؤال الأهم والحقيقي هو: هل لدينا خطة؟