دمر الفساد الكثير من دول العالم ذات الموارد الضخمة، وبالمقابل نجحت العديد من البلدان في وضع كوابح للفساد وملاحقة المجرمين مما انعكس ايجاباً على اقتصاداتها ورفاه شعوبها. ويعد السودان أحد الدول ذات الموارد الطبيعية الضخمة التي أقعد بها الفساد الذي تضخم في عهد حكم جماعة الاخوان التي انقلبت على النظام الديمقراطي في العام 1989، وقد وفر الحكم الديكتاتوري البيئة المناسبة للفساد الممنهج الأمر الذي حوّل موارد ومؤسسات الشعب السوداني إلى ملكية خاصة لبعض الأفراد.

عند اندلاع ثورة ديسمبر 2018 كان ملاحقة شبكات الفساد واستراد أموال وممتلكات الشعب أحد أهم الأهداف التي عملت لأجلها قوى الثورة، وبالفعل تم تشكيل "لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 واسترداد الأموال العامة"، حيث عملت اللجنة على تتبع عمليات الفساد في كل السودان ونجحت في استعادة الكثير من الأموال والمؤسسات التي آلت لشبكة من الفاسدين المرتبطين بالنظام.

وضعنا في "سودان سكوب" العديد من الأسئلة حول دور اللجنة وانجازاتها واخفاقاتها على منضدة أحد اركان التفكيك الأستاذ وجدي صالح، ونسبة لتعدد القضايا وتعقيد الملفات فقد جرى تقسيم الحوار إلى سلسلة حلقات متخصصة، ويأتي هذه الجزء كمقدمة حول دور اللجنة والتحديات التي واجهتها في إطار تنفيذها للمهام الأخطر على مستوى المرحلة الانتقالية.  

في ظل الجدل المتصاعد حول الفساد في السودان، وخاصةً في فترة حكم البشير، يرى البعض أن هذا الفساد يشكل امتداداً لممارسات فاسدة من ذات التنظيم قبل ان يستولى على السلطة بالقوة.. هل تتفق مع هذا الطرح؟

 نعم، بشكل قاطع. الفساد في عهد الإنقاذ هو امتداد للفساد الذي أسسه تنظيم الإخوان المسلمين في ظل نظام مايو بعد المصالحة الوطنية عام 1977. من أبرز قضايا تلك الحقبة كانت السيطرة على بنك فيصل الإسلامي، بعد انتفاضة مارس/أبريل تشكلت لجنة تحقيق لهذا البنك، الذي أسسته مجموعة من الرأسماليين الوطنيين، تم الاستيلاء عليه بطريقة ممنهجة، حيث تم طرح أسهم للعاملين فيه، وكان معظمهم من قيادات التنظيم الذين تم استقدامهم من الخارج، هؤلاء كانوا يسددون اشتراكاتهم التنظيمية من أموال البنك، حتى أصبحت أسهمهم تفوق أسهم المؤسسين دون أن يدفعوا مقابلاً مادياً يذكر.

وماذا حدث لتحقيقات تلك الفترة؟

تشكلت لجنة للتحقيق برئاسة المحامي العام آنذاك، المرحوم سليمان خليل. توصلت اللجنة إلى خلاصات مهمة، لكن مع الأسف، لم ترَ هذه التحقيقات النور. انقلاب 30 يونيو 1989 أوقف الإجراءات، وتضارب المصالح في تلك الفترة حال دون كشف الحقائق.

كيف تقيم الفساد في فترة حكم البشير؟

كان الفساد في تلك الفترة مؤسسياً وممنهجاً. لم يقتصر على جانب واحد، بل كان شاملاً:

فساد قانوني: تمثل في إصدار تشريعات تسهل الفساد. على سبيل المثال، أصدر البشير مرسوماً بقانون لوحدة تنفيذ السدود، منحها حق إبرام اتفاقيات القروض دون موافقة الجهاز التشريعي، واستثناها من المراجعة القانونية، بل وأعطاها الحق في التوقيع على العقود متجاوزاً وزارة العدل.

فساد اقتصادي: تم تمكين شركات تابعة للتنظيم عبر منحها امتيازات غير قانونية أثرت على حركة السوق. كما استفادت شركات الأجهزة الأمنية والعسكرية من ثروات هائلة لم توردها لخزينة الدولة. إضافة إلى ذلك، كانت هناك "الشركات الرمادية"، وهي شركات حكومية بالاسم، لكنها في الواقع كانت تدعم التنظيم مالياً دون رقابة.

فساد سياسي: أفسد الساحة السياسية عبر الرشاوى، حيث أصبح المال المحرك الأساسي لأي عمل سياسي. كان الهدف هو جذب الأعضاء الجدد وإقناعهم بأن الانضمام للتنظيم سيغير حياتهم للأفضل.

فساد المنظمات الطوعية: كانت هذه المنظمات مجرد واجهات لغسيل الأموال، يتم تسجيلها لتلقي تبرعات من مؤسسات الدولة، ثم تحويل هذه الأموال مباشرة إلى حسابات الحزب الحاكم والحركة الإسلامية. خير مثال على ذلك هو تحويل أسهم ولاية الخرطوم في بنك التنمية التعاوني الإسلامي إلى "جمعية الرضوان الخيرية"، ثم بيعها لأحد كوادر التنظيم

ما أبرز المؤسسات التي تمثل نموذجا متكاملاً للفساد؟ 

هناك الكثير من النماذج ، لكن يمكن أن نأخذ مثالاً لمؤسسة تم عبرها إرساء ممارسات فاسدة شاملة قانونية، تشريعية، واقتصادية، وهي منظمة الدعوة الإسلامية، إذ تم الايحاء للشعب السوداني بأن منظمة الدعوة الإسلامية هي منظمة دولية ومسجلة في السودان ومقرها في السودان، وتربط ما بين المنظمة والسودان اتفاقية مقر، ولكن هذا الكلام غير حقيقي وهذا ما يروج له، الحقيقة هي أن منظمة الدعوة الإسلامية منظمة سودانية أسست في السودان، وتم تسجيلها قبل انقلاب ١٩٨٩م بموجب قانون الجمعيات التبشيرية، وقبل ان تكمل  الانقاذ عامها الأول أصدر عمر البشير قانون أطلق عليه قانون منظمة الدعوة الإسلامية، وكان مخفيا عن الشعب السوداني، ويؤسس فيه للمنظمة، ويمنحها الكثير من الامتيازات، ويجعل من السودان مقراً لها، ولها الحق في فتح فروع  في الخارج، ويتم  تسجيلها في الخارج، وأتاح القانون إعطاء المنظمة صفة الدبلوماسية لكل منسوبيها، كما أن لها الحق في التداول بالعملات الصعبة، إدخال العملات إلى السودان واخراجها كذلك.

ومن أغرب بنود هذا القانون هو إعطاء صفة الوجوب، أي يجب علي السلطات المختصة أن تمنحهم الأراضي متي أرادوا ذلك، وفي أي مكان، ولهم الحق في الاستثمار وتأسيس الشركات في كل المجالات، ويتم اعفاؤها من الضرائب والرسوم الجمركية مما يصعب على الشركات الأخرى منافستها، كما عملت المنظمة في مجال النفط لاحقا، وكذلك التعليم، وأسست واجهات مثل مؤسسة المجلس الأفريقي للتعليم الخاص، والمجلس الأفريقي لرعاية الطفولة، وامتلكت المنظمة مدينة الطفل، ومنتزه الرياض العائلي، وفي مرحلة من المراحل أصبح رأس المال يقاس بالمليارات من الدولارات، كما عملت المنظمة في تجارة الادوية، والآليات الثقيلة، ومجال النقل، باختصار يمكن القول أن المنظمة عملت في كل المجالات. 

وتملكت منظمة الدعوة الإسلامية الأراضي في كل منطقة من مناطق السودان، ومن أوجه الفساد داخل الفساد هنالك بعض الشركات التي كانت تمتلكها المنظمة، ولكن تم السيطرة عليها من بعض أعضاء التنظيم الإسلامي. وبعد صدور قانون منظمة الدعوة الإسلامية بدأت بتسجيل فروع في الدول الأفريقية، واستقطاب دعم من الخارج، ونص القانون على أن يكون نصف أعضاء مجلس أمناء المنظمة من الخارج. وتم ادخال قيادات الاخوان المسلمين من دول أخرى، بالتالي ظهرت عملية الفساد داخل تنظيم الاخوان المسلمين.

عند استردادانا للمنظمة وجدنا في خزينة الأمين العام لمنظمة الدعوة الإسلامية تقرير عن الفساد داخل المنظمة، ويشير التقرير إلى أن ان الأمين العام الأسبق قد اختلس مبلغ "٢" مليون دولار امريكي، وبالطبع لم يحاسب، كما استولى ذات الأمين العام على شركات خاصة بالمنظمة، وتم تسجيلها باسمه. كل هذا تم بعلم التنظيم، وهنالك شركات كانت مسجلة باسم الولايات، تم الاستيلاء عليها من قبل العاملين. مثال أخير، شركة المقرن كانت تتبع لمنظمة الدعوة الإسلامية، ولكن آلت لرجل اعمال بطريقة لم يتم الكشف عنها، وشركات المنظمة وكيلة لشركات عالمية استفادت من الامتيازات التي منحت للمنظمة. 

واجهت لجنة التفكيك العديد من العقبات القانونية.. كيف تم تجاوزها؟

كانت التحديات كبيرة:

لجنة الاستئنافات: كان عدم تشكيلها عقبة مقصودة لعرقلة عملنا، لكننا اقترحنا تعديل القانون لمنح اللجنة حق مراجعة قراراتها.

سلطة اللجنة: تم تعديل القانون ليشمل كل مؤسسات الدولة، بما فيها القضاء والنيابة العامة، مما أعطى اللجنة سلطة واسعة.

إلزامية القرارات: في البداية، كانت قرارات اللجنة ملزمة، ولكن القانون نص رغم إلزاميتها بأن يكون القرار بصيغة (توصي اللجنة). تم تعديل القانون في أبريل 2020 لتصبح قرارات اللجنة تصدر كقرارات ملزمة وواجبة التنفيذ، واعتُبر عدم تنفيذها جريمة يُعاقب عليها القانون.

بالرغم من كل هذه التحديات، كيف تقيمون تجربة اللجنة؟

إنها تجربة فريدة وجديدة في السودان. عملنا دون ميزانية لأكثر من سبعة أشهر، وبمقر تم توفيره بروح ثورية. كان إيماننا وإيمان المتطوعين من الثوار هو الدافع الأساسي. تعاوننا مع منظمات دولية، مثل الأمم المتحدة، التي أشادت بتجربتنا واعتبرت أن المعايير التي عملنا بها كانت متقدمة وتحافظ على حقوق الإنسان، حتى إنها وصفتها بأنها "مثالية" وتحتاج إلى أن تُنشر في دول أخرى.

هل تمكنتم من استعادة الأموال المهربة؟

نعم كنا قد بدأنا العمل فيها ، استطعنا تفكيك شبكات لغسيل الأموال وتهريبها. تعاونا مع وحدة المعلومات المالية في بنك السودان، والتي ساعدتنا في تتبع الأموال في الداخل والخارج. لكن الانقلاب أوقف هذا العمل، مع العلم أن المعلومات لا تزال موجودة، ونحن نحمِّل المسؤولية الكاملة للقائمين على الانقلاب عن أي تلاعب أو تبديد لهذه المستندات. وأود أن أعيد التذكير بأن لجنة تفكيك نظام "الـ30 من يونيو" لا تزال ضمن مؤسسات الدولة ولم يتم اصدار قرار بحلها.

ما هي رؤيتكم لمستقبل عملية التفكيك؟

يجب أن تستمر عملية التفكيك، سواء عبر اللجنة أو أي صيغة أخرى. ويجب أن تشمل نظام 30 يونيو وبنية إنقلاب 25 أكتوبر معاً، لتجنب الدوران في حلقة مفرغة. كما يجب وضع ميزانية واضحة لهذه العملية، وأن تلتزم مؤسسات الدولة بدعمها.

الأهم من ذلك، أن يكون على رأس هذه المؤسسات قيادات مؤمنة بعملية التحول الديمقراطي، لأن الإيمان هو الأساس لإنجاح المهمة. هذه التجربة بحاجة إلى دراسة وتوثيق، فنحن يمكننا أن نستفيد من التجارب العالمية، وهم أيضاً يمكنهم الاستفادة من تجربتنا الفريدة.