الخرطوم بحري-سودان سكوب

في عالم تتقلب فيه الموازين، وتتلاشى فيه الخطوط الفاصلة بين الخير والشر، يبرز اسم "خادم الله موسى"، المعروفة بـ "يواء"، كصدى مأساوي لقصة قد لا تكون فريدة في السودان اليوم. إنها ليست مجرد قصة فتاة شجاعة تواجه حكماً جائراً بالإعدام، بل هي مرآة تعكس كيف يمكن للحرب أن تمحو ليس فقط المدن والأرواح، بل أيضاً المعايير الأخلاقية والمؤسسات التي بُنيت لحمايتها. إنها قصة عن العدالة الزائفة التي تنمو في ظل الفوضى، وعن كيف يتحول الجناة إلى ضحايا، والضحايا إلى مجرمين.

تبدو تفاصيل القضية للوهلة الأولى كحكاية بسيطة من زمن الحرب: شابة مخلصة لمجتمعها، تُدعى يواء، ترفض مغادرة حيّها في الخرطوم بحري. وبينما يفرّ الأغلبية بحثاً عن الأمان، تكرس هي وقتها وجهدها لرعاية الأطفال وكبار السن، وتتحول إلى عمود فقري غير مرئي للمجتمع. ولكن هذه الصورة الوردية سرعان ما تتلطخ بدماء الواقع المرير. يكمن "ذنبها" الوحيد في كونها شاهدة على جريمة، أو بالأحرى، على سلسلة من الجرائم.

وفي تصريح لـ"سودان سكوب"، أكد أحد أفراد أسرتها أن يواء، التي فقدت والديها، لم تغادر الحي طوال فترة النزاع، بل كانت تقدم الدعم والرعاية للأطفال وكبار السن، "دون أن تكون طرفاً في أي نشاط مشبوه". وأكدت الأسرة أن الاتهامات جاءت بعد كشف يواء عن أسرة متهمة بسرقة منازل السكان ونهب الذهب، وانضمام بعض أفرادها لقوات الدعم السريع، مستغلة نفوذها الأمني لتوجيه بلاغ كيدي ضدها.

تشير الروايات حسب شهود عيان  إلى أن يواء كشفت عن أسرة كانت تستغل الفوضى لنهب ممتلكات المواطنين الفارين. إنها قصة كلاسيكية عن الانتهازيين الذين يجدون في الحرب فرصة للثراء السريع. ولكن القصة لا تتوقف عند هذا الحد. فالأب وأولاده، بعد سرقة الذهب والممتلكات، يلبسون رداءً جديداً ويصبحون "متعاونين" مع الأجهزة الأمنية. 

ولكن يواء، التي لم تكن لديها أي أجندة سياسية، بل فقط ضمير يقظ، لم تستطع أن تبقى صامتة. كشفت عن ممارساتهم، وعندما بدأت قوات الدعم السريع تنسحب، أصبحت شهادتها حاسمة في فضح جرائمهم. وهنا، تتحرك آلة القمع. الأسرة، التي بنت نفوذها على الأكاذيب والمصالح المتداخلة مع الأجهزة الأمنية، تقلب الطاولة على يواء. تُقدَّم للمحاكمة بتهمة "التعاون مع قوات الدعم السريع"، وهي تهمة فضفاضة وفتاكة في آن واحد، يمكن أن تُستخدم ضد أي شخص يعارض السلطة أو يكشف فسادها.

المأساة الحقيقية تكمن في تفاصيل المحاكمة نفسها. فقد حُكم على يواء بالإعدام، وهي العقوبة الأشد، في محاكمة رفضت فيها المحكمة سماع شهادات عشرات السكان الذين كانوا مستعدين للإدلاء بشهادتهم دفاعاً عنها. هذا التجاهل الصارخ لأبسط حقوق الدفاع  يكشف عن خلل أعمق في النظام القضائي برمته. إنه نظام يعمل تحت ضغوط سياسية، نظام يستخدمه أصحاب النفوذ لتصفية حساباتهم، نظام لا يرى في العدالة قيمة عليا، بل أداة طيعة في أيدي الأقوياء.

ما حدث ليواء هو تحذير لكل من يجرؤ على قول الحقيقة في زمن الكذب. إنه تذكير بأن الحرب ليست مجرد صراع بين جيوش، بل هي أيضاً حرب على الحقيقة نفسها. عندما تتحول المحاكم إلى مسارح للظلم، وعندما يُكافأ اللصوص ويُعاقب الأبرياء، فإن هذا لا يؤدي فقط إلى تدمير الأفراد، بل يدمّر النسيج الاجتماعي الذي يربطنا ببعضنا البعض.

لقد دعا الكثيرون الآن إلى التصدي لهذا الحكم الجائر، وإلى التضامن مع يواء. وهذه الدعوات ليست مجرد محاولة لإنقاذ فتاة واحدة، بل هي محاولة لإنقاذ فكرة العدالة نفسها. إنها معركة من أجل إثبات أن الحقيقة ما تزال لها قيمة، وأن الشجاعة ليست جريمة، وأن الأقوياء لن يفلتوا من العقاب حتى لو استعانوا بأعلى السلطات. في هذه الأوقات المظلمة، لا يزال الأمل يكمن في أصوات أولئك الذين يرفضون "التصالح مع ظلم الناس"، ويصرّون على أن العدالة يجب أن تسود، حتى لو كانت أثمن ضحايا الحرب.