"الحكم العسكري واندلاع الحرب الأهلية"

" ۲ - ٥ "

د. عيسى حمودة

ذكرتُ في الحلقة الأولى من هذه السلسلة أن انقلاب الرقيب صمويل دو أنهى حكم مجموعة الأمريكوليبيريين الذين ظلوا ممسكين بالسلطة (والثروة) لأكثر من قرن من الزمان. رغم نجاح الانقلاب في تحقيق قدر من الاستقرار السياسي لما وجده من دعم من الأغلبية السكانية التي ظلت مهمشة، كما عمل "دو" على جذب الاستثمارات الأجنبية عبر منحها امتيازات تفضيلية كبيرة، وانحيازه للغرب في الحرب الباردة. إلا أن عهده تميز بالانحيازات الإثنية لمجموعته العرقية وتهميش الإثنيات الأخرى. دخلت ليبيريا في حالة من عدم الاستقرار بسبب الصراعات الإثنية وزاد الجنرال "دو" من قبضته الحديدية بعد عدة محاولات انقلابية ما بين 1985-1989.

ويعتبر عام 1989 هو عام بداية الحرب الأهلية، حيث نجحت مجموعة تشارلز تايلور (أحد الموالين السابقين للجنرال دو) المتمردة في التوغل داخل ليبيريا من دولة ساحل العاج المجاورة. وتمكنت المجموعة المسلحة المتمردة التابعة للجنرال برنس جونسون (مجموعة منشقة من مليشيا تشارلز تايلور) من اجتياح العاصمة منروفيا وأسر الجنرال صمويل دو (عمل دو على ترقية نفسه لرتبة الجنرال بعد تسلمه السلطة)، وتعذيبه ومن بعد اغتياله. سبق اغتيال الجنرال دو مجزرة كنيسة منروفيا الشهيرة على بعد أمتار من القصر الرئاسي والتي دبرتها مجموعات مسلحة موالية للجنرال دو. راح ضحية تلك المجزرة أكثر من 600 من المصلين من إثنيات أخرى.

توسعت رقعة الحرب الأهلية٬ ومع بداية عام 1990 كانت هناك عشرات المليشيات الإثنية والقبلية التي تسيطر على أجزاء متفرقة من البلاد. والحديث هذه الأيام عن تعدد المليشيات والمجموعات المسلحة في السودان، أورد هنا تجربة ليبيريا في تناسل المليشيات المسلحة مع تطاول أمد الحرب هناك، والتي امتدت ما بين 1989-1997:-

مجلس إنقاذ شعب ليبيريا: الحزب الحاكم الذي كونه الجنرال دو، وهو حزب عمل على بناء تحالف شعبي عريض يدعو إلى تمكين المجموعات المهمشة ووجد في بداياته تأييداً عريضاً من الليبيريين من المجموعات القبلية المحلية التي ظلت مهمشة لعقود طويلة إبان هيمنة مجموعة الأمريكوليبيريين. ولكن مع رغبة دو في الانفراد بالسلطة وتزايد انحيازه لمجموعته الإثنية ومجموعة الماندنقو المتحالفة معه٬ أصبح الحزب تحت قبضة مجموعة الرئيس الإثنية من قبيلة الكران.

الجبهة الوطنية القومية بقيادة تشارلز تايلور: مليشيا أسسها تشارلز تايلور بعد انشقاقه عن دو. عمل تايلور كوزير دولة قبل أن يهرب إلى الولايات المتحدة بعد اتهامه باختلاس مبالغ طائلة وملاحقته من قبل الحكومة.

الجبهة الوطنية القومية المستقلة: مليشيا منشقة عن مجموعة تايلور أسسها الجنرال برنس جونسون، وتغلب عليها إثنيتي الغيو والمانو، وهي المجموعة التي نجحت في اجتياح مونروفيا والقبض على الجنرال دو.

قوات الدفاع المتحدة الليبيرية: مليشيا موالية لدو، وتكونت من مجموعتي الكران التي ينتمي إليها دو وإثنية الماندنقو المسلمة.

حركة تحرير ليبيريا المتحدة: مليشيا نشأت من انشقاق إثنية الماندنقو عن قوات الدفاع المتحدة المذكورة أعلاه. وانشقت هذه المجموعة بدورها إلى مجموعتين بسبب صراعات داخلية وسط مجموعة الماندنقو.

مجلس سلام ليبيريا: مليشيا أسسها أحد القيادات السياسية وبعض المتقاعدين من الجيش الليبيري.

العديد من المليشيات الأخرى التي قامت على أسس جهوية في مقاطعات ليبيريا المختلفة.

هذه المجموعات والمليشيات تميزت بتغير ولاءاتها مع تغيّر الصراع وتبدّل التحالفات والأوضاع السياسية، وتدفّق الدعم وفرص نهب الموارد والتجارة. اشتهرت هذه المليشيات بالاتجار في كل شيء، خاصة في الموارد الطبيعية والتعدين، وارتبط اسم الحرب الأهلية بتجارة الماس المخلوط بالدم. توسعت رقعة الحرب وتعقدت في شهور وجيزة، وفشلت الجهود الإقليمية والدولية في وقفها وتحقيق السلام. ما بين 1990-1997 تمت عدة مبادرات إقليمية ودولية للتدخل والضغط على الأطراف المتصارعة لتوقيع اتفاقات سلام، وتم عقد ثلاث اتفاقيات سلام لكنها لم تدم طويلًا. كانت أهم تلك المبادرات تدخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا في أغسطس 1990، وهي منظمة إقليمية تتكون من دول غرب أفريقيا الستة عشر. وجد قرار المجموعة الإقليمية دعمًا من دول أفريقية أخرى مثل يوغندا وتنزانيا، واللتين أرسلتا أيضًا قوات مسلحة لدعم قوات مجموعة دول غرب أفريقيا. كانت مهام قوات التدخل الأفريقي حماية المدنيين، إجلاء الرعايا الأجانب، إجبار الأطراف المتحاربة على وقف إطلاق النار، والاتفاق على تشكيل سلطة انتقالية تمهد لقيام انتخابات في البلاد. حقق التدخل نجاحًا محدودًا في تأمين العاصمة مونروفيا، والتي كانت قوات تشارلز تايلور على مقربة منها.

كانت أهم أسباب فشل مجموعة التدخل الأفريقي هي قلة التمويل وتباين الرؤى السياسية بين دول غرب أفريقيا. في سبتمبر 1993، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا بتكوين بعثة مراقبة لليبيريا، والذي شمل إرسال قوة مراقبة عسكرية من بضع مئات، وبعثة مدنية لتنفيذ اتفاق سلام وقعت عليه الأطراف المتحاربة في كونتونو، عاصمة دولة بنين. فشلت الجهود الدولية والإقليمية في استدامة اتفاق السلام واشتدت حدة المعارك، وتزايدت انتهاكات المدنيين. وقعت الأطراف المتحاربة اتفاقي سلام جديدين في 1994 (اتفاقية أكرا، غانا)، وفي عام 1995 (اتفاقية أبوجا، نيجيريا). نجح الاتفاق الأخير نسبيًا، والذي اتفق بموجبه ممثلون من القوى المدنية وثلاث حركات مسلحة كبيرة، من بينها مجموعة تشارلز تايلور، على اتفاق سلام وتقاسم السلطة الانتقالية وإجراء انتخابات بعد توقيع الاتفاق.

انهار الاتفاق بعد فترة وجيزة وتجددت المعارك داخل العاصمة مونروفيا بصورة أكثر حدة من سابقتها. خلال هذه الفترة، كانت المليشيات المسلحة تتقاسم السيطرة على العاصمة مونروفيا، وعقب انهيار اتفاق السلام، شهدت المدينة دمارًا كبيرًا ونهب المؤسسات الحكومية وبيوت المواطنين ومقار المنظمات الدولية. فرّ عشرات الآلاف من المواطنين من العاصمة، واحتمى أكثر من 20 ألف بمقر السفارة الأمريكية. حاولت الولايات المتحدة الأمريكية، أحد أهم حلفاء ليبيريا، التدخل لإنقاذ اتفاق أبوجا، لكن مساعيها فشلت. كما جرت جهود أخرى من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لتقريب الشقة بين أطراف اتفاق أبوجا، ونجحت هذه الجهود في إعادة الشركاء إلى طاولة التفاوض وتم اختيار السيدة روث ساندو بيري لقيادة المجلس الرئاسي الانتقالي الجديد (وبذلك تصبح أول امرأة من أفريقيا تتولى منصب رأس الدولة.

لاحقًا في عام 2005، تمّ انتخاب امرأة أخرى كرئيسة لليبيريا وهي إيلين جونسون، وأصبحت بذلك أول امرأة تنتخب رئيسة في أفريقيا). جرت محاولات خلال هذه الفترة لجمع السلاح من المجموعات المتحاربة، وأفادت التقارير بأنه تم جمع قرابة عشرة آلاف قطعة سلاح وأكثر من مليون من الذخائر عبر تحفيز المقاتلين بدعم عيني ومنح للدراسة. كما قدّمت الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الأوروبية دعمًا ماديًا ولوجستيًا لقوات التدخل من المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، لزيادة عدد جنودها ومقدراتها. مع كل ذلك، لم تفلح كل الجهود الإقليمية والدولية في استدامة اتفاق سلام دائم. أيضًا كانت هناك تباين في مواقف المجموعة الإقليمية والولايات المتحدة الأمريكية من قيام الانتخابات.

كان موقف الولايات المتحدة ونيجيريا مع قيام الانتخابات في موعدها في 1997، على عكس مواقف بقية دول غرب أفريقيا، والأحزاب والقوى المدنية الليبيرية، التي طالبت بتأجيل الانتخابات. قامت الانتخابات كما حُدِّد لها ونجح تايلور في هزيمة تحالف المدنيين الذي قادته أيلين جونسون سيرليف. استبق تايلور بقية القوى السياسية بترشيح نفسه وتكوين حزب سياسي، عمل على تنظيم حملات انتخابية ونجح في كسب تأييد مجموعات السكان في المناطق الريفية. كان فوز تايلور، في انتخابات شبه نزيهة بشهادة جهات محايدة شاركت في مراقبة الانتخابات، مدهشًا للعالم خاصة لدوره في الحرب. أحد تفسيرات ذلك الفوز أن الشعب صوت له لفهمهم لطموح تايلور في الحكم وأنهم يخشون أنه سيعود بانتخابات أو بدونها. كما كانت رغبة المواطنين في إنهاء الاقتتال والعيش في سلام والعودة لديارهم، دافعًا لدعم تايلور، وقد انتشرت مقولة رَدَّدَها الشباب إبان الحملة الانتخابية تقول: "لقد قتلت أبي وقتلت أمي ولكني سأصوت لك".

تحقق استقرار نسبي بصورة أكبر بعد انتخاب تايلور وعمل المجتمع الدولي على مساعدة الشعب الليبيري على إعادة البناء عبر تقديم الدعم المالي والفني واللوجستي لحكومة تايلور، ودعم القوى المدنية ومنظمات المجتمع المدني الليبيري، وتقوية الإعلام والصحافة الحرة. لكن لم يتم إحراز تقدم كبير في إعادة البناء والاستقرار وتزايدت انتهاكات حقوق الإنسان وتوترت علاقة المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية مع نظام تايلور. شكل تدخل تايلور في حروب سيراليون وغينيا المجاورتين مصدر قلق ومن بعد قطيعة مع داعميه من المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي هدد رئيسها وقتها بيل كلينتون باتخاذ إجراءات عقابية ضد حكومة تايلور. واستمر توتر العلاقات بين البلدين إبان عهد الرئيس بوش الابن أيضًا.

تطورت التوترات الداخلية إلى صراعات وعادت ليبيريا إلى الحرب مرة أخرى، والتي انتهت باتفاق سلام جديد في أكرا في العام 2003، أعقبه تشكيل حكومة انتقالية لمدة ثلاث سنوات وجرت الانتخابات الرئاسية في أواخر 2005 و التي فازت بها إيلين جونسون سيرليف، عبر تكوين تحالف عريض شمل بعض لوردات الحرب السابقين الذين تحولوا الي قادة سياسيين و اسسوا أحزابا اغلبها قام علي أسس قبلية و مناطقية. لعل اهم ما نشير اليه هنا هو المعاناة و الكلفة البشرية للحرب الاهلية في ليبيريا.

ليبيريا دولة صغيرة و كان عدد السكان في تلك الحقبة حوالي اتنين مليون و نصف. شردت الحرب اكثر من ثلثهم خارج البلاد، و نزح اكثر من مليون منهم داخل ليبيريا لمناطق آمنة نسبيا، و قدر عدد ضحايا الحرب من الموتي بقرابة ال300 الف. تسببت الحرب في انهيار الإنتاج الزراعي في المناطق الريفية، ومع انقطاع التجارة و مصادر الدخل الاخري انتشرت المجاعة و سوء التغذية. كما ان تعدد المليشيات و اتساع رقعة الحرب اغلقت الباب أمام دخول منظمات الإغاثة، و القليل منه الذي بقي واجه عمليات نهب الإغاثة و الممتلكات. كما انتشرت النعرات القبلية و الجهوية و العنف وسط المواطنين و تزايدت حالات القتل علي الهوية، شملت الأطفال و النساء و العجزة.