اصدر بنك السودان المركزي بياناً نشره على موقعه الالكتروني بتاريخ 9 بوفمبر 2024م أعلن فيه طرح ورقة نقدية جديدة لفئة الألف جنيه لم يحدد تاريخ العمل بها بعد، وحث المصارف على استلام العملات من فئات الألف جنيه والخمسمائة جنيه من المواطنين وحفظها في حساباتهم مع تمكينهم من استخدام هذه الارصدة عبر وسائل الدفع المختلفة.
صحب هذا الإعلان جدلٌ كثيف في الوسائط المختلفة حول مغزى الخطوة وجدواها ما بين معارض ومؤيد، وتفاوتت الدوافع في تناول الموضوع، وذهب الناس في هذا الشأن مذاهبَ شتّى. ولكن أغلب التعليقات كانت مشحونة بحمولات سياسية تجاوزت أساسيات الاقتصاد التي تستدعي اصدار أوراق نقدية جديدة، كما أنّ معظم التعليقات تجاهلت حزمة الاجراءات الفنية والادارية والتأمينية المعقدة التي يعتبر استيفاؤها شرطاً جوهرياً لاكتمال عملية تصميم وطرح ومن ثمّ اصدار فئة نقدية جديدة. بل للأسف اتخذت بعض التعليقات بعدا ذاتيا حاد عن المنهاج المهني الموضوعي في تناول قضية تمس عصب الأمن القومي.
بصورة عامة، يتم تغيير العملة لأسباب قد تكون اقتصادية، سياسية، سيادية، أمنية أو مزيج من هذا وذاك. شهدت العملة السودانية عمليات تغيير واستبدال متعددة خلال الحقب الماضية لدواعٍ مختلفة، ولكن نادرا ما تمت عملية الاستبدال لأسباب اقتصادية محضة.
من الدواعي السياسية لاستبدال العملة ما حدث في عام 2007م تقريبا، فقد تم تغيير العملة السودانية من الدينار إلى الجنيه ضمن الايفاء بمطلوبات تنفيذ اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، حيث اعتبرت الحركة الشعبية أنّ الدينار يحمل رمزية ويعبر عن هوية ثقافية لفئة محددة من المجتمع السوداني. وليس بعيدا من هذا السياق تم أيضا تغيير العملة بعد انفصال الجنوب لاسباب سيادية واقتصادية حيث أصبحت العملة عملة بلد آخر ومعبرة عن سيادته.
بداية الحرب وعمليات النهب والمطالبة باستبدال العملة
برزت المطالبة باستبدال العملة منذ بداية الحرب في الثالث عشر من ابريل 2023م. اتخذت المطالبة باستبدال العملة بعداً جماهيريا وشغلت الرأي العام بعد ملاحظة الناس لعمليات النهب الواسعة التي طالت البنوك وخزائن الشركات والمؤسسات والمحال التجارية ومنازل المواطنين في كل المواقع التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع. ففي نظر البعض إنّ عملية الاستبدال تحرم اللصوص والنهابين (الشفشافة) من الاستفادة من هذه الأموال الضخمة التي استولوا عليها بغير وجه حق، بل اغتصبوها من اصحابها بعد اذلالهم وتشريدهم من منازلهم ومنشآتهم.
لكي تتم عملية تقييم موضوعي والنظر في القضية من كل ابعادها، هنالك تعقيدات فنية ولوجستية وتحوطات امنية ونواحي ادارية وعوامل وحقائق موضوعية لا بد أن توضع في الاعتبار عند الشروع في اتخاذ قرار من الخطورة بمكان مثل اتخاذ قرار استبدال العملة.
أولاً: الحرب نشبت من غير سابق انذار، ومن المعروف أنّ جميع الاوراق النقدية طرف بنك السودان المركزي محفوظة في الخزن الرئيسة (المقرن) وفي الخزنة المركزية (فرع الخرطوم) وفي مطابع العملة (شارع الغابة). في الثلاثة أشهر الأولى للحرب مراكز تواجد النقد الثلاثة هذه كانت في مناطق سيطرة الجيش ومحمية بواسطة القوات المسلحة السودانية.
ثانياً: لا اعتقد أنّه من عادة أو في أعراف البنوك المركزية أن تكون هناك عملات احتياطية بديلة للعملات المتداولة يتم الاحتفاظ بها تحوطاً لأي طارئ خارج التوقعات، بما في ذلك التحسب للحروب حتى لو كانت محتملة الحدوث. حتى الدول التي تخوض حروباً طويلة، مثل اليمن وليبيا لم تستبدل عملاتها المتداولة إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها بعد سنوات عديدة ولم تسلم عملية الاستبدال من المخاطر الاقتصادية والسياسية.
ثالثا: عملية النهب في حدّ ذاتها ليست سبباً جوهريا لتغيير العملة او تبديلها، فبوسع الناهب في لمح البصر أن يقوم باستبدال المبالغ التي سطا عليها بمعادن نفيسة مثل الذهب والألماس أو تغييرها بعملات حرة مثل الدولار واليورو، وبالتالي عملية الاستبدال لاتحقق هذا الغرض إن كان القصد منها حرمان اللصوص من الاستفادة من هذه المبالغ. كما أنّ النهب مسألة مستمرة مع دخول قوات الدعم السريع لكل منطقة وهذا يستدعي تبديل العملة بعد اجتياح كل مدينة بمقتضى هذا المنطق.
رابعا: الاستبدال في ظروف الحرب يواجه تحديات أمنية نتيجة فقدان الحماية وعدم قدرة المواطنين من التحرك في مناطق الحرب لاستبدال ارصدتهم. في اوقات السلم تتم الاستعانة بالشرطة والقوات النظامية. كما أنّ هناك مناطق محاصرة مثل الابيض والفاشر ومدني يصعب نقل الأموال إليها دون أن تتعرض لعمليات نهب مرة أخرى.
خامسا: من الناحية الفنية، هنالك مجموعة من التحديات التي تعتري عملية طباعة العملة بداية من عملية التصميم للأوراق الجديدة. فقدان المطبعة يقتضي البحث عن مطبعة خارجية، وعملية التعاقد والتسليم تستغرق ما بين 9 إلى 12 شهراً، ومدخلات الطباعة مثل الورق، الحبر، الشريط التأميني، التصميم المؤمن، يتم توريدها من مصادر متعددة، وكل بند من شركة مختلفة بالضرورة، كما أنّ الشركة الطابعة تكون مختلفة عن شركات التوريد. الحجز من شركات العملة في الغالب يتم من السنة السابقة. بعد توقيع العقد مع شركة الطباعة قد تستغرق عملية التسليم فترة زمنية لا تقل عن 6 شهور لاستلام الدفعة الأولى من فئة واحدة ناهيك عن فئات متعددة.
دواعي طرح الأوراق الجديدة:
إذا كانت الأسباب التي ذكرت أعلاه غير كافية لعملية استبدال العملة، إذاً ما هي الدواعي الحقيقية وراء اصدار فئات جديدة؟ هنالك أربعة سيناريوهات محتملة تتفاوت درجة احتمالية حدوثها:
1/ أن يكون قد تم التعاقد مع جهة خارجية لطباعة العملة، ونتيجة لتقلبات العلاقات وتدني مستويات الثقة ربما هناك خشية أن تقوم هذه الجهة بتسليم النقود أو ادخالها عبر منافذ خارج سيطرة الدولة وأجهزتها النظامية، وتستخدم هذه النقود في تمويل عمليات الحرب ضد الدولة أو في تخريب الاقتصاد الوطني. هذا الاحتمال غير راجح لأنّ شركات طباعة العملة هي شركات معروفة ومحدودة العدد على مستوى العالم ولا يتوقع أن تخاطر بسمعتها إلى هذا المستوى مهما كانت الدوافع.
2/ بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مطابع العملة، ضمن الارصدة التي تم نهبها، هناك احتمال نهب عملات غير مصدرة من مخازن الاصدار، أي تم سحبها وتداولها من غير ارصدة حقيقة مقابلة لها في البنوك، وهذه تعتبر زيادة في عرض النقود تنعكس على معدلات التضخم وعلى سعر الصرف وتدهور قيمة العملة المحلية خاصة اذا كان حجم هذه الأرصدة كبيراً. هذا احتمال وارد بدرجة كبيرة.
3/ احتمال سرقة المخزون المتاح من ورق طباعة العملة واستخدامه في عمليات التزييف والتزوير وهذا أيضا احتمال وارد بدرجة كبيرة رغم الصعوبات الفنية التي تواجه عمليات التزوير، لكن بإمكان عصابات التزوير أن تطور أدواتها مع مرور الزمن. العملات المزيفة يمكن اكتشافها بسهولة لكنها قد تلقى قبولاً محدوداً في المناطق النائية والتي تتم أغلب عمليات التداول فيها خارج النظام المصرفي. هذا كما قلت يظل احتمالاً قوياً وسبباً جوهرياً للاستبدال إذا ثبتت عملية التزوير.
4/ قد تكون عملية الاستبدال استجابة لضغوطات الرأي العام وكثرة الطرق على هذا الموضوع من قبل عدد من الكتاب والناشطين الذين ليست لديهم خلفية كافية عن مثل هذه القضايا، مع ذلك قد تفضل أجهزة الدولة عدم فتح جبهات متعددة وتضع حسابات للرأي العام على حساب الرأي الفني، والانصراف إلى التحدي الأكبر الذي يهدد وجود كيان الدولة وسيادتها على أراضيها. هذا احتمال ضعيف باعتبار بنك السودان المركزي جهة فنية تتمتع برصيد معرفي وتجارب كبيرة تحصنها من الانسياق وراء أي خطاب غوغائي غير محسوب.
مقترحات
إن كانت هنالك ثمة مقترحات يمكن تقديمها في هذا السياق، فإنّ العملة السودانية منذ اندلاع الحرب قد تآكلت قيمتها الحقيقية بفعل معدلات التضخم العالية، وهذا يستدعي إعادة النظر في إمكانية اصدار أوراق جديدة من فئات كبيرة (10، 5، 2) الف جنيه يسهل حملها، خاصة إذا اعتبرنا حقيقة أنّ الاقتصاد السوداني قائم على الانتاج السلعي في مناطق الرعي والزراعة والتعدين التقليدي. تلك المناطق النائية غير مغطاة بشبكة مصرفية بصورة كافية، وخدمات الانترنت والاتصالات الفعالة محدودة، والمنتجون في تلك الاصقاع في الغالب لا يجيدون التعامل مع جميع وسائل الدفع الرقمية، وبالتالي لا تزال الحاجة إلى التعامل بالنقد مسألة ملحة.