حرب السودان على مساحات عمل المجتمع المدني
إن تأثير حرب السودان على مساحات عمل المجتمع المدني، ومحاولات المجتمع المدني الضغط من أجل إيقافها أو تخفيف آثارها، هي علاقات غاية في التعقيد والترابط؛ فعلى مدار أكثر من عام، ظلت مساحات عمل المجتمع المدني تتعرض للتقليص في مقابل عسكرة الفضاء العام وتجييشه لصالح الحرب. ويزداد مسار التقليص في كل يوم مما أدى إلى انحسار العمل المدني داخل السودان، ما عدا الأنشطة ذات الطابع الإنساني، التي تتضاعف الحاجة إليها مع انهيار الأوضاع الإنسانية واقتراب شبح المجاعة. وكذلك تحولت العديد من أنشطة المجتمع المدني إلى عواصم ومدن دول الجوار، لاسيما كمبالا ونيروبي وأديس أبابا.
فيما يلي من نقاط نتلمس التحديات التي تواجه المجتمع المدني في السودان، من واقع طبيعة الأنشطة والأدوار التي يقوم بها في ظل استمرار الحرب، والفرص التي يمكن استغلالها لصالح أدوار أكثر فعالية له في المستقبل. نركز في هذا المكتوب على المنظمات التي هي جزء مؤثر من مكونات المجتمع المدني ولكنها ليست المكون الوحيد.
تحديات العمل
تحديات تشغيلية :
نشأ هذا التحدي لأن العديد من الفاعلين في المجتمع المدني السودان غادروا أو نزحوا من أماكن استقرارهم بسبب الحرب وانتشار رقعتها الجغرافية، كما أن أغلب المنظمات الوطنية والدولية، في ولاية الخرطوم وبعض الولايات الأخرى، فقدت مقرات عملها وممتلكاتها بسبب استيلاء قوات الدعم السريع على المقار ونهب المتحركات.
تحديات تمويلية
مغادرة العديد من المنظمات الدولية للسودان عقب الحرب، وتوقف تمويل المشاريع المتعلقة بالتثقيف المدني والمشاركة السياسية، كل ذلك أثر على قدرة منظمات المجتمع المدني، من واقع أنها تعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي في تمويل أنشطتها, وهذا التحدي واجه المنظمات التي لا تعمل في المجال الإنساني بشكل أكبر,. حيث أن تعاظم الكارثة الإنسانية، من جانب، والتضييق الأمني، من جانب آخر، جعلا التركيز من قبل المنظمات الممولة ينصب على البرامج والمشاريع ذات الطابع الإنساني. وفي الواقع عادت بعض المنظمات الدولية للعمل، بالإضافة إلى وكالات الأمم المتحدة التي لم تغادر، ولكن يقتصر عملها على معالجة آثار الكارثة الانسانية المتفاقمة بسبب الحرب.
تحديات أمنية
يتعلق هذا التحدي بقدرة المنظمات على إقامة أنشطتها في ظل التضييق من قبل الاستخبارات العسكرية والأجهزة الأمنية التابعة للجيش أو قوات الدعم السريع. في ظل الحرب تعرض ناشطون للاغتيال في دارفور، وأغتيل مفوض العون الإنساني في مدينة الجنينة، كما تعرض العشرات من الناشطين للتهديد من قبل طرفي النزاع. بعض المنظمات استطاعت أن تعمل داخل السودان في الجانب الإنساني، ومعظمها بالتنسيق مع (غرف الطوارئ) التي يعاني متطوعوها من الاستهداف الأمني في كل ولايات السودان. ونشأت غرف الطوارئ بعد قيام الحرب بوصفها جهدا طوعيا من مجموعات الأحياء القاعدية التي نشطت بأشكال مختلفة مع وعقب ثورة ديسمبر., وقد بدأت عملها في ولاية الخرطوم ثم تمددت لأغلب ولايات السودان.
تحديات قانونية
مع بداية الحرب، ولأكثر من عام، توقفت إجراءات تسجيل المنظمات الجديدة على المستوى الاتحادي، كما كان يصدر خطاب من مفوضية العون الإنساني، كل ثلاثة أشهر، إلى المنظمات المسجلة قبل الحرب لتمديد تسجيلها. ومنذ شهر يونيو 2024 بدأت إجراءات إعادة تسجيل المنظمات وفتح الباب أمام تسجيل منظمات جديدة. تعاني المنظمات السودانية أيضاً من تعقيد إجراءات عملها، فأي نشاط تقوم به يحتاج إلى موافقة من الأجهزة الأمنية والعسكرية المختلفة.
انشأت قوات الدعم السريع هيئة للعون الإنساني لتقوم بالإشراف على عمل المنظمات والعمل الإنساني في المناطق الخاضعة لها، مما يفرض تعقيدا إضافيا على المنظمات العاملة في السودان.
المجتمع المدني في الحرب
في داخل السودان، ومن بين آلاف المنظمات الموجودة قبل الحرب، فإن المنظمات التي تعمل بشكل فعال محدودة العدد، وينصب عملها على الجانب الإنساني. حتى المنظمات التي كانت تعمل في مجالات الدراسات وقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية لجأت في بعض الأحايين لتغيير أنشطتها وتحولت إلى العمل الإنساني، مع التأكيد على أنه لا زالت بعض المنظمات التي تعمل في الجانب الحقوقي والرصدي للانتهاكات تعمل، ولكن بشكل مستتر عن أعين السلطات والجهات الأمنية.
تركيز المنظمات المدنية وعبر التواصل مع المجموعات القاعدية في التصدي للأزمة في مجال الأمن الغذائي عبر برامج دعم المطابخ (التكايا) وبعض المشاريع الإنتاجية المتعلقة بالأمن الغذائي.
عدد من منظمات المجتمع المدني قامت بتوفيق أوضاعها القانونية خارج السودان، خاصة في كمبالا بدولة أوغندا، وهو عدد يتزايد بشكل مستمر، وتعمل هذه المنظمات بحرية وبدون تضييق من قبل السلطات الأوغندية في المجالات المتعلقة برتق النسيج الاجتماعي ومحاربة خطاب الكراهية، والتثقيف المدني والديمقراطي، والعدالة الانتقالية والحكم المحلي. ساعد في ذلك لجوء نسبة مقدرة من السودانيين إلى هناك وانتقال عدد من المنظمات الدولية التي كانت تعمل في السودان للعمل في كمبالا ونيروبي.
كما يشارك المجتمع المدني عبر المنظمات والأفراد في المبادرات المختلفة التى تعمل على إيقاف الحرب واستعادة مسار التحول المدني الديمقراطية مع القوى السياسية والاجتماعية المختلفة.
وبشكل عام، يمكننا القول إن نشاط المجتمع المدني بدأ يتصاعد بشكل مستمر عقب الصدمة التي تلقاها بسب الحرب. مما يميز نشاط هذه المرحلة بروز تيارات وموجة جديدة من منظمات المجتمع المدني القاعدية. كما قامت العديد من المجموعات والمبادرات بالتسجيل كمنظمات جديدة، وكأننا أمام موجة جديدة للمجتمع المدني في السودان وهي فرضية يصعب الأمساك بكل تفاصيلها في الوقت الحالي. وبالمقابل، فإن العديد من المنظمات والفاعلين في المجتمع المدني تراجع أداؤهم وتأثيرهم في المجال المدني.
من الملاحظ أيضا، برغم تعاظم الانتهاكات التي تتم في السودان بسبب الحرب؛ فإن النشاط الرصدي لهذه الانتهاكات أقل من المطلوب كما يتأثر بحملة التضييق الأمني في السودان.
المستقبل أمام المجتمع المدني
على الرغم من التضييق الذي يواجهه المجتمع المدني في السودان إلا أن هناك صمود ومقاومة لما يواجه من تحديات، وهو ما يتمثل في أوجه عدة؛ فعلى سبيل المثال، أتاحت محنة الحرب لمنظمات المجتمع المدني فرصة أكبر للعمل والتنسيق مع المجموعات القاعدية، بما يجعلها أكثر قربا وتواصلا مع المجتمعات التى تعمل فيها، ولعل ذلك كان من أهم العقبات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في السودان، كما تساهم هذه العلاقة من ناحية مقابلة في إكساب المجموعات الشبابية القاعدية قدرات إدارية ومؤسسية من خلال تعاملها مع المنظمات الوطنية والدولية.
وقريب من ذلك فإن تركيز جميع المنظمات المدنية العاملة على قضايا العمل الإنساني، حتى تلك التي تعمل في المجالات الحقوقية والدراسات، وإن فرضه واقع الحرب، فهو يجعل منظمات المجتمع المدني أكثر ارتباطاً بقضايا الناس، لاسيما مع تراجع، بل انعدام الدور الحكومي بعد قيام الحرب. أيضاً مع تزايد حجم الأزمة في السودان فإن التزامات المانحين بالتمويل أصبحت أكثر وضوحا بما يساعد في معالجة تحدي التمويل الذي يواجه منظمات المجتمع المدني في السودان .
مع تزايد الأزمة في السودان وحجم التحدي الذي يقابل المجتمع المدني فإن إشارات تخلق مجتمع مدني جديد ملتصق بشكل أكبر بقضايا الناس والخدمات، هذه الإشارات تقابل تحديات كبيرة، تناولنا جزء منها ولكن تظل الثقة بأن المجتمع المدني في السودان وعبر قدراته علي الصمود التي اكتسبها من خوض تجارب مختلفة ومتعددة ستساهم في قدرته على أداء الأدوار المطلوبة منه في ظل التعقيد الذي يحيط بالسودان.