ملخص تنفيذي
أفرز الصراع المسلح في السودان والذي اندلع في الخامس عشر من أبريل 2023م أزمة إنسانية غير مسبوقة وآثار اقتصادية كارثية. حيث أصبحت السلع الأساسية بعيدة عن متناول الكثيرين نتيجة لارتفاع أسعارها بسبب نقص المعروض واضطراب سلاسل التوريد مما دفع بمستويات التضخم للارتفاع لمستويات قياسية، وتراجعت قيمة الجنيه السوداني بشكل حاد مقابل الدولار الامريكي، بينما انكمش/ تراجع معدل النمو الاقتصادي الحقيقي بنسبة 20.3% في العام 2024م وهي أعلي نسبة تراجع على امتداد تاريخ الاقتصاد السوداني، ويرجع ذلك لتدمير الحرب القدرة الإنتاجية للبلاد وإرباك النشاط الاقتصادي برمته
في المجمل، يعود هذا التدهور غير المشار إليه إلى التدمير الهائل الذي أحدثه الصراع المسلح المستمر، والذي تسبب في شلل تام للقدرة الانتاجية وعجز بائن في أداء مختلف الأنشطة الاقتصادية ذات الأولوية. وفي جانب العرض فقد أدي تدمير البنية التحتية الإنتاجية والتراجع الحاد في قطاع الخدمات إلى انخفاض حاد في النمو، بينما أدت حالة النزوح واسعة النطاق وخسارة الدخل الشخصي إلى إضعاف مستويات الاستهلاك، الأمر الذي فاقم من حدة الانكماش الاقتصادي.
تجدر الإشارة، إلى أن حكومة الفترة الانتقالية في ابتدرت في العام 2019م حزمة إصلاحات اقتصادية ومالية، من بينها السياسة المالية والسياسة النقدية وسياسات سعر الصرف، وقد توقفت هذه الاصلاحات تماماً، بل وحتى المكاسب العديدة التي تحققت قبل نشوب الصراع الحالي قد تراجعت، وظل معدل التضخم في مستوي ثلاثة أرقام 200.1% وارتفع كل من العجز المالي والعجز في الحساب الجاري إلى مستويات قياسية بلغت 6.3% و 8.7% علي التوالي و ذلك للعام 2024م، مما فاقم من الأزمة الاقتصادية السائدة حالياً.
بناءً عليه، تقدم هذه الورقة تحليلاً لأداء لبعض مؤشرات الاقتصاد الكلي والتوقعات المقدرة للعام 2025م، على أن هذه التوقعات تخضع كثيرا على عوامل عدم اليقين والتي تتمثل في ايجاد حل سلمي يوقف الصراع وبالتالي الشروع في تطبيق الاصلاحات الاقتصادية المنشودة.
هذا وتقدر خسائر وأضرار الحرب في السودان بحوالي 180 مليار دولار في نهاية 2024م وهي أضرار جسيمة وخسائر كبيرة تركت الاقتصاد السوداني في حالة عدم توازن تام. ويتطلب التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار تعاون دولي عاجل ودعم مالي نافذ وخارطة طريق واضحة لإعادة إعمار وبناء البنية التحتية واستعادة الخدمات الاساسية و دعم مجمعات النزوح .
ومن أهم الأولويات الإستراتيجية في الوقت الحالي هو إيقاف الحرب حالاً وتطبيق إصلاحات ضرورية تكون بمثابة الإجراء الحاسم لإعادة استقرار الاقتصاد ومقابلة الحاجيات الإنسانية العاجلة وإعادة إدماج السودان في المجتمع الدولي.
تؤكد هذه الورقة على ضرورة استيعاب التقنيات الرقمية الحديثة مثل تحويل النقود عبر الهاتف النقال لتوصيل الدعم لمن يستحقه، تدعو الورقة إلى تبني عقد اجتماعي جديد قائم على الحكم الرشيد والشفافية وإتاحة الفرص المتساوية لجميع المواطنين السودانيين.
تشمل الأولويات اجراء إصلاح شامل للمؤسسات المملوكة للدولة لتخفيف المخاطر المالية وتعزيز حوكمة الموارد الطبيعية لمناهضة التجارة غير المشروعة ورعاية نمو ونهضة القطاع الخاص. يرتبط التعافي الاقتصادي بشكل وثيق مع الاستقرار السياسي، ويتطلب ذلك أيضاً إدارة مدنية كاملة للاقتصاد والعمل نحو الاصلاح الشامل. حيث يكمن الطريق إلى إعادة بناء السودان في تبني نهج نمو شامل وتنمية مستدامة وتحول ديمقراطي سلمي تعود ثماره على كل الشعب السوداني.
"الطريق إلى الامام “: التوصيات الرئيسية نحو التعافي
- إصلاحات شاملة. حيث تعالج اسباب الانكماش الاقتصادي المتفاقم بإعطاء أولوية قصوي لاستقرار الاقتصاد الكلي، تطوير آليات الحوكمة وتنمية رأس المال البشري.
- تنمية شاملة. حيث تركز على إعادة بناء الأسس التي يعتمد عليها الاقتصاد السوداني باعتماد إستراتيجيات النمو المستدام لضمان انتفاع كل المواطنين بفوائده على حد سواء.
- إدارة الموارد البشرية. محاربة وتنظيم التجارة غير المشروعة في الذهب والتدفقات المالية التي تقوض التحول الديمقراطي للسودان وتعزيز الحوكمة في إدارة الموارد الطبيعية .
- الوصول إلى التمويل. إتاحة التمويل للقطاعات الاقتصادية المهمة، والشروع في إصلاحات الجهاز المصرفي وإعادة هيكلة الدين وتبني إستراتيجيات اقتصادية شاملة.
- استثمارات موجهة بعناية. ويتم ذلك بتفعيل وتنشيط التعافي الاقتصادي بإعادة بناء البنية التحتية اللازمة ورجوع الخدمات الأساسية للمواطن وتقوية شبكات الأمان الاجتماعي.
المقدمة
أسفرت الحرب التي أندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023م عن أزمة إنسانية بالغة تستوجب حلاً سلمياً عاجلاً، وعلى ذات السياق فإن الآثار الاقتصادية للصراع الدامي مثلت انتسكاسة كبيرة أدت إلى تباطؤ غير مسبوق للاقتصاد عبر تاريخ السودان. وقفزت أسعار السلع الأساسية بشدة لتؤثر على الفئات الضعيفة، إضافة إلى ذلك يتوقع أن يؤدي ارتفاع الاسعار الذي سببته الحرب والضغوط المتزايدة على الاسعار إلى حدوث نقص حاد وقلة في المعروض من السلع مما يدفع بارتفاع معدلات التضخم.
يقف السودان الآن على مفترق طرق، حيث يعاني الاقتصاد من انكماش حاد من المتوقع أن تمر البلاد بأوضاع قتصادية بالغة التعقيد في العام 2025م و على الأرجح أن تمتد ذات الاوضاع للعام المقبل مع تزايد آثار حدة الحرب، و مع تراجع نشاط القطاع الخاص وتراجع القوى الشرائية للأسر وتزايد العزلة الدولية يتوقع أن يدفع بالنمو الحقيقي للاقتصاد إلى مستوي المنطقة السالبة، وهو 20.3 % في العام 2024م. وكان الجنيه السوداني قد فقد نصف قيمته مقابل الدولار الامريكي منذ بداية العام 2024م، ويتوقع أن يتواصل في تدهوره المستمر خلال العام 2025م في حال استمرار الحرب ، بينما يواصل معدل تضخم مؤشر أسعار المستهلك في ارتفاعه ومن المتوقع أن يتكون من ثلاث خانات، ويزداد تراجع العجز المالي و عجز الحساب الجاري ليتجاوز الحدود الآمنة.
يتمثل التحدي الأكبر للسودان في الوقت الحالي في ضرورة إيقاف الحرب على الفور حيث أنها تستمر في استنفاد الطاقات وإحداث الخسائر الاقتصادية، وإذا قُدّر للطرفين المتصارعين الموافقة على وقف إطلاق النار، عندها فقط يمكن تطبيق خطة إصلاح إستراتيجية تساعد في إعادة الاستقرار الاقتصادي ودعم مبادرات إعادة التأهيل والبناء. ومن خلال مرور سنتين من عمر هذا الصراع الدامي حتي الآن وما نتج عنه من أزمة إنسانية من نزوح ولجوء للمواطنين فإن التقاعس عن إنهاء الحرب سوف يفاقم من حجم هذه الخسائر. الجدير بالذكر أن استمرار الحرب تسبب في أضرار وخسائر للاقتصاد تقدر قيمتها ب 180 مليار دولار أو تزيد حتى الآن، وتزداد تكلفة عملية إعادة الإعمار نتيجة للدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية للاقتصاد باستمرار كلما طالت فترة القتال ويتطلب ذلك موارد مالية هائلة، ورغم ذلك فمن المؤكد أن السودان لن يتحمل العبء وحده فإن ذلك يتطلب ضرورة دعم شركاء التنمية والشركاء والأصدقاء لتمهيد الطريق نحو التعافي الاقتصادي.
في ذات السياق يحمل التعاون الدولي أهمية كبيرة للسودان، إذ تلعب عملية إعادة دمج السودان في المجتمع الدولي دور حيوي في تعزيز الأمن والاستقرار السياسي داخل البلاد كما أن التعاون الدولي يعزز من العلاقات الدبلوماسية وتطوريها مما يشجع على دعم مباحثات السلام ويساعد في حل النزاع، وكل ذلك يسهم كثيراً في دعم الأمن والاستقرار في السودان. علاوة على ذلك فإنَ من الأهمية القصوي تقديم الدعم لمساعي إعادة إعمار السودان والتي تنضوي تحتها عدد من المهام مثل إعادة إعمار البنية التحتية واسترجاع الخدمات الاساسية للمواطنين وإغاثة المجتمعات المتأثرة بالمساعدات الانسانية بالإضافة إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر والدعم المالي لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة. وأن الهدف من كل هذه الجهود شمولية المنافع بحيث لا يحرم منها و لو فرد واحد في السودان.
خلاصة الامر أن السودان بحاجة إلى خارطة طريق لمساعدة المواطن في العودة إلى ما كان عليه وأفضل، واعتماد تقنية رقمية متطورة تساعد في تحويل الاموال بكفاءة الي من يستحقونه من المحتاجين. كما أن مرحلة ما بعد الحرب تستوجب إيجاد عقد اجتماعي جديد يشمل جميع أهل السودان لضمان منح فرص متساوية إلى الجميع، هذا النهج يعد أساسياً لبناء حكم مدني يقوم على الحكم الراشد والشفافية، مثل هذا الإطار يجعل من أولوياته الاستقرار الاقتصادي والتعايش السلمي والتوزيع العادل للموارد لجميع السودانيين.
توصي ورقة السياسات بالتأكيد على السيادة الاقتصادية والمالية للحكومة المدنية حيث تعد سيطرة المدنيين على الشأن الاقتصادي بالغة الأهمية للتحول المدني الديمقراطي، ومن الضروري إجراء إصلاح على المؤسسات الاقتصادية التي تملكها الدولة يشمل تطوير الحوكمة حيث يساعد هذا الإصلاح من التخفيف من وطأة المخاطر المالية وخلق بيئة مواتية لنمو القطاع الخاص.
على نفس المنوال فإن تعزيز دور الاقتصاد السياسي وإدارة الموارد الطبيعية يعد أمراً هاماً وتشتد الحاجة لأهمية هذا الجانب بالنظر إلى النفوذ القوي للتجارة غير المشروعة في الذهب والتدفقات المالية بعد الوصول إلى التحول الديمقراطي المنشود للسودان، كما مخاطبة هذه التحديات يعد أمر بالغ الاهمية ومُلحِ للغاية.
وفي المجمل يتطلب الاستقرار الاقتصادي اجراء تقييم لآثار وتداعيات الحرب، وهذا التقييم من شأنه دراسة العوامل المؤثرة في إذكاء الصراع على مستقبل المشهد الاقتصادي في السودان مستقبلاً. إزاء هذه الخلفية، توجز هذه الدراسة التطورات الاقتصادية الأخيرة خلال فترة الحرب وتقدم ملامح عامة للمستقبل.
أحدث التطورات في الاقتصاد الكلي والآفاق المستقبلية
1. القطاع الحقيقي
أ.النمو الحقيقي للناتج المحلي الاجمالي
من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي إلى 20.3% في العام 2024،. في العام 2022 ساهمت الزراعة 32.7% في الناتج المحلي الاجمالي، بينما ساهمت الصناعة بنسبة 21% في الناتج المحلي الاجمالي، ورغم ذلك فإن هذا العام فإن المساحات الكلية للزراعة تراجعت بقوة قد تصل الي ما نسبته 50% من المساحة المزروعة سابقاً. وبطريقة أخرى، وبالنظر إلى مفهوم الرصيد الرأسمالي، تشير التقديرات إلى أن قيمة البنية التحتية المنتجة وأصول رأس المال للسودان يربو عن 600 مليار دولار (ليس هذا الناتج المحلي الاجمالي للسودان)، وتختلف التقديرات في هذا الشأن. إذا اعتمدنا هذا الرقم يتضح أن تكلفة الاضرار بلغت ما يصل إلى 30% من قيمة الرصيد الرأسمالي أي حجم خسائر تبلغ 180 مليار دولار.
القطاع الزراعي
ساهمت الزراعة بنسبة 32.7% من الناتج المحلي الاجمالي للعام 2022 ويعمل في هذا القطاع ما يربو عن 70% من مجمل السكان في السودان، ومن المتوقع أن يشهد هذا القطاع تراجعاً حاداً في نشاطه ويعود ذلك لعدة أسباب تتمثل في نقص التمويل وغياب دعم الحكومة وعدم توفر الأمن في كثير من المناطق مما يحصر المساحات المزروعة في نطاق محدود، و يهدد النقص الكبير في القطاع الزراعي الأمن الغذائي وآفاق التوظيف و العمل، غير أن الولايات التي ظل يسودها الأمن تمثل فرصة لتوسع الاستثمار الزراعي لتعزيز الأمن الغذائي ومحاربة الفقر تحسين والظروف المعيشية.
الجدير بالذكر أن الحرب أدت إلى دمار أكثر من 50% من المصانع و 70% من مصانع المواد الغذائية، كانت ولاية الخرطوم قبل الحرب تساهم بنسبة 25% من الناتج المحلي الاجمالي للدولة وبلغت نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي للدولة للعام 2023 نسبة 21% ويتواقع أن تتدهور مساهمة هذا القطاع العام خلال هذا العام.
ارتفع النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2022 بنسبة 0.6% ويعود ذلك النمو لأداء القطاع الزراعي والصناعي، ورغم ذلك التقدم ونظراً للظروف الراهنة وازدياد مخاطر الصراع المستمر فإن التوقعات ترجح حدوث تراجع في الناتج المحلي الإجمالي بما يصل إلى 20.3% (يتضح من الشكل البياني رقم 1 أنه إذا توقفت الحرب يمكن حدوث تعافٍ وتقدم بنسبة 8.3% في العام 2025). من المهم مراعاة أن التوقعات المبذولة تخضع إلى عوامل أخري هامة يشوب بعضها عدم اليقين من حدوثها تقوم بالأساس على توقف القتال ونجاح تطبيق الإصلاحات الاقتصادية.
الشكل البياني رقم (1): نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال الفترة (2010-2025)

المصدر : الجهاز المركزي للإحصاء وصندوق النقد الدولي
ب.معدلات التضخم
التضخم، ارتفاع الاسعار السلع والخدمات. انخفض معدل التضخم في فبراير 2023 إلى 63.3 % من معدله لشهر مارس من نفس العام حيث بلغ 83%، ونسبة للحرب المستمرة لم تتمكن الحكومة من أن تكشف عن معدل التضخم الحالي مما أثار مخاوف من حدوث ارتفاع كبير في الاسعار. وفي نفس السياق فإن معدل التضخم السنوي بلغ مستوى قياسي وسجل 256.6% بنهاية 2023، وهو معدل أعلى من سابقه المسجل في العام 2022 والذي بلغ معدل التضخم السنوي 164.3%، هذه الارقام رغم وطأتها تغيرت بحدة بعد الحرب وقفزت بشكل متتالٍ. تجدر الإشارة إلى أنه في أغسطس 2021 فقد انخفض معدل التضخم 35 نقطة لأول مرة منذ عام واستمر في النزول في توالياً نتيجة مجهودات الضبط المالي، (كما يتضح في الشكل البياني رقم 2)، وتراجع معدل التضخم إلى 200.1 في العام 2024 ويتوقع أن يستمر في نزوله إلى نسبة 118.9% في العام 2025. من المهم مراعاة أن التوقعات المقدمة تخضع إلى عوامل اخري هامة تقوم بالأساس على توقف القتال ونجاح تطبيق الإصلاحات الاقتصادية.
الشكل البياني رقم (2): متوسط معدلات التضخم السنوية خلال الفترة (ديسمبر 2020- ديسمبر 2025)

المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء، وبيانات صندوق النقد الدولي
2. المالية العامة
تأثر المشهد المالي في السودان بشكل كبير بالصراعات المستمرة والتحديات الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة. فيما يلي ملمح عام لاتجاهات العجز في الموازنة للأعوام 2022 والعام 2023 والتوقعات لما يحدث في العام 2024. هنالك عدد من الاسباب تعرقل مساعي السودان في تعبئة الايرادات وزيادتها تشمل هذه الصعوبات الفاقد الكبير في الإيرادات نتيجة الإعفاءات الضريبية الكبيرة والاعفاءات الضريبية المتعلقة بضريبة القيمة المضافة والجمارك وضريبة الشركات. بالإضافة إلى الضعف في عائدات الجمارك وإدارة الضرائب أسهم ذلك بشكل واضح في هذه الصعوبات، مثل الفساد في إدارة الاعفائات الضريبية بالاخص فيما يلي الصادر والوارد معضلة كبيرة واجهت كفاءة التحصيل الضريبي. واجه ديوان الضرائب حملة نقد شرسة لاتهامه بفرض اجراءات وضرائب متعسفة تعوزها الشفافية وتنتشر بها المحسوبية ويعفي أصحاب العلاقات في السياسة والشركات مما يتيح التهرب الضريبي.
تجدر الإشارة إلى أن متوسط تحصيل الإيرادات الضريبية في السودان يبلغ بين 6-7 % من الناتج المحلي الاجمالي بين الأعوام 2016 إلى 2024، وهو أقل بكثير من متوسط التحصيل الضريبي لبعض البلدان الأفريقية جنوب الصحراء والذي يصل إلى 16.5 %. ومن المؤكد أن الحرب خلفت واقعاً أسوأ حيث لم تستطع وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي من خلق موارد تفي بتغطية الفصل الأول رواتب العاملين بالدولة وإيرادات للحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة. قدرت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في البداية أن ايراداتها بما فيها المنح الاجنبية ستبلغ 7.3 ترليون جنيه سوداني في العام 2023 مقارنة ب 3 مليار جنيه في العام 2022، ويعتقد ان هذه التقديرات كانت متعسفة حتى ولو لم تشتعل الحرب حيث أن المتحصل من الايرادات لا يتجاوز 12.4 % في العام. ومع استمرار الحرب ووضع الاقتصاد الهش فمن المتوقع نقص حاد في الإيرادات للعام 2023، حتى الآن لم يتسن الحصول على تقارير تفيد بسير عمل الميزانية من وزارة المالية.
تواجه وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي تحديات كبيرة في العام 2023 ويعود ذلك للزيادة الكبيرة في تعويضات العاملين التي قفزت الي 87% (من 1.1 تريليون جنيه في العام 2022 الي 2.1 تريليون جنيه في العام 2023) مما قد يضطر وزارة المالية لأخذ دفعيات مؤقتة بالمقدم من بنك السودان مما يعرف بالتمويل بالعجز وذلك نظراً لظروف الحرب القائمة.
تساهم الضرائب غير المباشرة بما يصل إلى 85% من العوائد الضريبية بينما تبلغ مساهمة ضريبة الدخل الشخصي 15%. تسبب إغلاق الأعمال وتوقف رواتب ومستحقات العاملين في الدولة وقطاع الاعمال وتسريح العاملين من مؤسساتهم في عسر التحصيل الضريبي وإحداث فاقد ضريبي كبير مما أثر على حشد وجمع الإيرادات المحلية المختلفة.
تقدر القوة العاملة في القطاع الحكومي (بما فيها العاملين بالقوات النظامية) والعاملين في القطاع الخاص بنسبة 10% من إجمالي السكان في السودان. يعاني الآن ما يصل إلى مليون عامل في القطاع العام من توقف رواتبهم بالكامل بينما يتلقي رصفاؤهم العاملين في القوات النظامية رواتبهم بصورة منتظمة، لذا يتوجب النظر لهذا الجانب ليتلقى العاملين في الخدمة المدنية رواتبهم التي تعيلهم على قدم السواء.
بما يخص المجهود الحربي فإن وزارة المالية التخطيط الاقتصادي تعمل على تخفيف تحديات كبيرة لتخصيص موارد مالية إضافية للقوات المسلحة التي تتصارع مع قوات الدعم السريع. من الضروري النظر أن الميزانية العامة للدولة التي تم إجازتها في يناير 2023 قد أبرزت الاهتمام بموجهات وأهداف الميزانية العامة للعام 2022 والتي تمثلت في مضاعفة التحصيل الضريبي الضعيف وحشد الموارد المحلية والانفاق الهائل على الأمن والدفاع، تطبيق سياسة راشدة لتجاوز هذه التحديات لميزانية العام 2023 صار أكثر صعوبة بعد اندلاع الحرب في الربع الثاني من نفس العام مما فاقم من الوضع المالي للدولة. في هذا الظرف الاستثنائي والهش أعطت وزارة المالية أولوية الصرف لقطاع الأمن والدفاع بالإضافة إلى تخصيص موارد للوقود وتقديم السلع والخدمات وكل المواد المتعلقة بالمجهود الحربي. ومن نافلة القول إنه مع استمرار وانتشار الحرب من الصعب تطوير وتحسين تحصيل الإيرادات لتوقف أنشطة قطاع الأعمال وحدوث عزلة دولية خانقة أدت إلى توقف المنح والقروض إلى الحكومة.
بخصوص العجز في الموازنة الدولة فإن الجدول 3 يكشف أن الأداء لموازنة الدولة للعام 2021 كان أفضل من أداء الميزانية لثلاث سنوات متتابعة (2018/ 2020)، هذا التحسن طرأ نتيجة مجهودات الضبط المالي وخارطة طريق واضحة على ضوء برنامج مراقب من خبراء صندوق النقد الدولي والتسهيل الائتماني الممدد وتطبيق صارم لقيود محددة للتمويلات المقدمة من بنك السودان المركزي للعام 2021، وبذلك تم تحقيق التوازن المالي ليصل الي 1.0 % من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2021. كما تم الحفاظ على عجز الحساب الجاري (على أساس نقدي) في حدود يمكن تحقيقها وهو 5.0 % من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2021. ورغم ذلك فأن الوضع الخارجي قد تراجع بشدة خلال العام 2022 نتيجة توقف برامج الاصلاحات خصوصا المساعدات المالية. ومن المتوقع في حال استمرار سيناريو الحرب الممتد أن تتطابق التوقعات مع توقعات صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الافريقي التي أشارت الي مزيد من التدهور فيما يلي العجز في الموازنة والعجز في الحساب الجاري للأعوام 2024 و2025.
اتسع العجز المالي بشكل كبير ليبلغ 9.1 % من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023، هذه الزيادة تعود بشكل أساسي للنقص الحاد في إيرادات الدولة في ظل حرب مستعرة والتي أصابت الاقتصاد بالشلل والضمور الحاد للقاعدة الضريبية. أدت الحرب الي انكماش حاد في ميزان الحساب الجاري للناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 8.6 % ويعود ذلك إلى دمار مقدرات الإنتاج والنزوح الكبير وكذلك اللجوء للمواطنين.
وبينما تشير التوقعات للعام 2024 لتقلص محتمل طفيف في العجز المالي بمعدل يصل الي 6.3 % من حجم الناتج المحلي الإجمالي غير أن ذلك يخضع لتحسن الظروف الامنية وما يعقبها من مساعٍ لإنعاش اقتصادي، هذا التحسن المتوقع يفترض حدوث زيادة كبيرة في إيرادات الحكومة من الانشطة الاقتصادية لعملية إعادة الاعمار مما يساعد في تقليل معدلات التضخم واستقرار الاقتصاد برمته. (الشكل البياني رقم 3)
الشكل البياني رقم (3): عجز الموازنة العامة وعجز الحساب الجاري خلال الفترة (2012-2024)

المصدر: تقارير الموازنة العامة للدولة، وبيانات صندوق النقد الدولي
3. القطاع الخارجي
رغم تطاول أمد الحرب فقد تلاحظ حركة الصادر بشكلٍ ملحوظ حيث تم إصدار أكثر من 5 ألف شهادة صادر مؤخراً إضافة إلى الواردات أيضاً، وبالنظر إلى المشهد المتغير والذي تأثر بالمتغيرات السياسية المتواصلة فمن المتوقع أن يوالي الجنيه السوداني انهياره بالنسبة لأسعار الدولار، ورغم أن سعر الصرف ظل مستقراً نسبياً لبعض الوقت فقد شهد الأسبوع الماضي تدهور الجنيه السوداني ليفقد 30% من قيمته.
كشفت البيانات الأخيرة للغرفة التجارية أن حجم الصادرات للفترة بين 17 مايو إلى 17 يوليو 2023 بلغت 65.7 مليون دولار، شملت هذه الصادرات الفول السوداني الذي وصلت حصيلة صادراته إلى 22 مليون دولار والقطن الذي بلغت حصيلة صادراته 15.4 مليون دولار والسمسم الذي بلغت حصيلة صادراته 12 مليون دولا، يعكس هذا الحجم المتواضع الآثار السالبة للحرب المستمرة، وللدلالة على ذلك يجدر الإشارة لمتوسط حصائل الصادر الشهري في العام السابق 2022 التي بلغت 363 مليون دولار والتي تعادل خمسة مرات حجم الصادرات المسجل للفترة بين مايو ويوليو 2023.
المفارقة الحالية..بلد تذخر بالموارد مع اقتصاد ضعيف
شهدت صادرات الذهب تراجعاً حاداً بعد نشوب الحرب، وكانت هذه الصادرات قد بلغت قبل الحرب 50% من مجمل الصادرات في العام 2022. وفقاً لبيانات البنك المركزي في تقرير إحصاءات التجارة الخارجية بلغ العجز التجاري 6.7 مليار دولار حيث بلغت الصادرات 4.3 مليار دولار وبلغت الواردات 11.7 مليار دولار في العام 2022. ومن المتوقع تراجع صادرات الذهب إلى أكثر من 50% ويعود ذلك إلى بعض التحديات التي تتعلق بإنتاج الذهب الذي ينتج معظمه معدنيين تقليديين الذين يبلغ اسهام الانتاج لديهم 85% من مجمل صادر الذهب. الصعوبات التي تواجه إنتاج الذهب تتمثل في المشاكل الأمنية وندرة الأسواق وصعوبات الحركة والنقل وقلة المواد الخاصة بإنتاج الذهب مثل الزئبق والسيانيد الذي تحتكر الحكومة والشركات التابعة لها استيراده. تجدر الإشارة إلى أن التجارة غير المشروعة في الذهب والتدفقات المالية الناتجة عنها كانت من الدوافع الرئيسية في قطع الفترة الانتقالية.
فيما يخص صادر الذهب أوان الحرب أظهر بيان صحفي صدر مؤخراً من الشركة السودانية للمعادن في الرابع عشر من سبتمبر أن مناطق امتياز للشركة أنتجت 2 طن من الذهب تم تصديرها وذلك في الفترة من 15 أبريل إلى 31 اغسطس، 2023 زادت حصيلتها عن 124 مليون دولار (حسب الشكل البياني رقم 4) استلمت الحكومة منها 25.5 مليون دولار من نصيبها، وهذا يبرز بشكل لافت أثر الحرب على الاقتصاد المتوقع في مرحلة ما بعد الحرب بخصوص التعامل مع قطاع الذهب.
الشكل البياني رقم (4): إنتاج وصادر الذهب خلال الفترة (2011- 2024)

المصدر: تقارير الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية_ بنك السودان المركزي
سعر الصرف. استنفد البنك المركزي احتياطياته من النقد الاجنبي خصوصاً من الذهب، وفقد الجنيه السوداني 30% من قيمته خلال الخمس أشهر الأخيرة وبما يقدر 70% من قيمته منذ انقلاب 25 اكتوبر 2021. وبناءً على المشهد السياسي المتغير من المتوقع أن يواصل الجنيه السوداني التراجع في قيمته. تلاحظ أن معدل سعر الصرف شهد استقرار نسبي لبعض الوقت ويميل الجنيه السوداني للتراجع في قيمته عند استئناف حركة الاستيراد النشطة، ومن المتوقع أن يوالي الجنيه تدهوره وفقد قيمته مع استمرار الحرب وانتشارها.
أحد أهم المعالم الرئيسية للفترة التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر 2021 استقرار سعر الصرف (كما يوضح الشكل البياني 5)، فقد اتخذت حكومة الفترة الانتقالية السابقة عدد من الخطوات بإتجاه سعر صرف يحدده السوق ومضت هذه الخطوات بسلاسة حيث شهدت الفترة التي تلت توحيد سعر الصرف استقرار نسبي. كان لسياسة توحيد سعر الصرف في فبراير 2021 أثر كبير في معدل سعر الصرف في السوق الموازي خصوصاً بعد أن أصدر البنك المركزي منشوراً بالرقم 12/2021 حول آلية التدخل في سوق سعر الصرف والتي تم النص عليها عبر المزادات ومنشور آخر بالرقم 14/2021 حول الدفع الأجل لعمليات الاستيراد عبر الصناديق المكلفة والمخصصة من المزادات. هذه المساعي لعبت دور هام في التخلص من ممارسات مختلفة شوهت سعر الصرف بالإضافة لقيود مصاحبة للتعامل في النقد الاجنبي، هذه الاجراءات تعد ضرورية لمنع الأشخاص اصحاب المزايا والنفور من استخدام هذه الاختلالات للمنفعة الشخصية.
الشكل البياني رقم (5): سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف الموازي خلال الفترة (2010- 2024)

المصدر: تقارير بنك السودان المركزي
بشكل عام فإن العجز التجاري المستمر يضع ضغط متواصل على العملة الوطنية، يتمثل العجز التجاري في حجم استيراد أكبر حيث يستورد السودان أكثر مما يصدر مما يتطلب المزيد من النقد الأجنبي لمقابلة الاستيراد مما يؤدي إلى تدهور العملة المحلية ويؤدي ذلك إلى رفع تكلفة البضائع المستوردة مما يدفع بمعدلات التضخم إلى الارتفاع (الشكل البياني رقم 6).
لعب سوء الإدارة في قطاع الذهب انتاجاً وتصديراً دور كبير في بروز سوق موازي غير رسمي لسعر الصرف ذو قدرات ضخمة حيث أفادت التجارب أن تدفق النقد الأجنبي على السوق الموازي للنقد الأجنبي في السودان يتم عن طريق تهريب صادر الذهب، إضافة إلى ذلك حين يحدث اضطراب في الدول مثل الحرب الدائرة في السودان الآن حيث تضعف مراقبة وحماية الحدود تتدفق أموال كبيرة لتجارة التهريب ومنها الذهب ومن المتوقع ان تزداد بكثافة مما يضع مزيد من الضغط على العملة المحلية.
الشكل البياني رقم (6): العجز المزمن في الميزان التجاري خلال الفترة (2011- 2024)

المصدر: موجز إحصاءات التجارة الخارجية، بنك السودان المركزي
4. سياسات التوسع المالي والنقدي
لتخفيف أثر الاضرار الاقتصادية الفادحة التي سببتها الحرب الدائرة يتطلب الوضع الحالي ابتدار سياسة نقدية ومالية توسعية من منظور الاقتصاد الكلي ولكنها متوازنة وعماد هذه السياسة زيادة الانفاق الحكومي، حري بمثل هذه السياسات أن تلعب دور جوهري في مرحلة دفع التعافي الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب حيث يتم دعم القطاعات الاكثر تضرراً في الاقتصاد وإعادة تأهيل مؤسسات القطاعين العام والخاص.
كما تدعم السياسة التوسعية النقدية والمالية المذكورة حزم التحفيز الحكومي للاقتصاد وتوجه الموارد وصناديق التمويل نحو القطاعات الأكثر حاجة للدعم، تتضمن هذه التدابير تخصيص إعانات مالية أكثر لقطاع الأعمال والاستثمار في تنمية البيئة التحتية وحفز النمو الاقتصادي ببعض الحوافز وحل مشكلة الأزمة المعيشية إضافة خلق مزيد من الوظائف. كما تهدف هذه الاجراءات إلى تنشيط الاقتصاد وتحفيز تعافي القطاعات المتأثرة بالحرب. كما تساهم السياسة التوسعية النقدية والمالية في إعادة تأهيل مؤسسات القطاع العام التي قد تأثرت بالاضرار خلال فترة الحرب وإعادة بناء وتأهيل تلك المرافق وضمان سير عملها وكفاءتها لتقديم الخدمات الأساسية للعامة. وعلى ذات السياق تنتفع مؤسسات القطاع الخاص من الدعم المالي لتعود للانتعاش وإعادة تشغيلها، هذه التدابير تشمل حوافز ضريبية وفتح باب القروض وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال.
السياسة النقدية. يعد توفر التمويل ضرورياً لتمويل القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعات الأساسية لخلق الاستقرار وتقديم الخدمات الاساسية فترة الحرب. تتسبب الحروب دائماً في شلل الاقتصاد وتؤدي إلى زيادة الانفاق الحكومي والذي بنفسه يقود الي التضخم. تحتاج السلطات المسؤولة عن تنفيذ السياسة النقدية لعقد توازن بين ضخ السيولة النقدية وكبح التضخم الجامح على المدي المتوسط.
خلاصة الامر، أوان الحرب تعد ادارة الدين المحلي وسياسة النقد مهمة صعبة ومعقدة تتطلب توازن دقيق يدعم الاقتصاد ويساعد في استقرار الاسعار ويضمن الاستقرار المالي. وللتعامل مع هذه التحديات وتجاوز هذه الظروف يتطلب الأمر التنسيق المحكم بين مؤسسات الدولة المختلفة والالتزام بالشفافية بين صناع القرار.
5. القطاع المصرفي
أضرت الحرب باستقرار الجهاز المصرفي بشدة حيث أغلقت كل رئاسات المصارف منذ اندلاع الحرب وتعرضت الكثير من فروع المصارف الي الخراب والتدمير بل والحرق بعد إعمال النهب والسلب.
ويساور الشك الكثيرين بتحقيق ارباح لهذه المصارف بعد تعرضها لخسائر فادحة نتيجة الضغوط الكبيرة عليها من تحصيل الديون المستحقة بالإضافة الي تداعيات أستمرار الحرب على صمود وسلامة الجهاز المصرفي. أضر التركيز على عمل المصارف من خلال رئاسات المصارف القائمة في الخرطوم على عمل المصارف بعد الحرب نتيجة للاعتماد الكبير على الرئاسات في تشغيل العمل المصرفي وخرجت من العمل حيث صارت الخرطوم منطقة حرب وهذا بدوره أضر كثيراً بعمل المصارف في الولايات المختلفة.
خلق الصراع المستعر في السودان تحديات ضخمة على عملاء المصارف وتسبب في خسائر جمة للافراد المقتدرين والأعمال التجارية المزدهرة، ويعود ذلك للضرر الذي أصاب أنظمة الدفع المركزي وما تلا ذلك من توقف أعمال المصارف.
ورغم أن بنك السودان المركزي استعاد بنجاح النظام التشغيلي لبرنامج التسوية الإجمالية في الوقت الحقيقي (نظام سراج) في العاشر من سبتمبر 2023 فإن الجهود قد استؤنفت لاستعادة نظام المقاصة المركزي، ورغم ذلك لا زالت هناك الكثير من المصاعب تواجه الكثيرين من عملاء المصارف يبلغ عددها 32 مصرف ترتبط بمخدم تشغيل قومي تقوم عليه شركة الخدمات المصرفية الإلكترونية.
لم يستطيع هولاء العملاء الوصول الي حساباتهم و التصرف في الودائع ، و زاد الامر سوء بعد تدهور سعر الصرف مما الحق بهم خسائر جمة فقدوا خلالها ما قيمته نصف الودائع في حسابات الرصيد. حتي المصارف التي تمتلك نظام تشغيل مستقل مثل بنك الخرطوم و بنك فيصل الاسلامي و بنك أم درمان الوطني و بنك البركة الاسلامي و بنك السلام واجهوا مصاعب بالغة في معاودة تقديم الخدمات المصرفية ، و رغم هذه المشكلات تمكنت بعض المصارف من تقديم الخدمات الرئيسية عبر التطبيقات المصرفية مما سمح بتداول و تحويل النقود و شراء السلع و الخدمات الاساسية.
من المتوقع أن يشهد نشاط التمويل تراجع أكثر حيث لن يكن بمقدور المصارف الانخراط في أنشطة الوساطة المالية وتقديم التمويل اللازم للقطاعات الاقتصادية المختلفة بمثل ما كان عليه الحال في السابق. وتخضع المصارف إلى قيود فيما يخص جذب الودائع وتلقى الدعم من بنك السودان المركزي ولا يتوقع من فروع المصارف في الولايات من تقديم التمويل، بل ويتوقع أن تتبنى المصارف تدابير تقشف أكثر فيما يخص التوسع في التمويل لتجنب مخاطر الاعسار والتقصير. والملاحظ أنه حتى قبل الحرب تقل مستويات الوساطة المالية في السودان عن رصيفتها في الدول الافريقية جنوب الصحراء حيث بلغ تمويل الأعمال وسبل كسب العيش للاسر فقط 9.5 % من الناتج المحلي الإجمالي وذلك بنهاية العام 2021 (وكان المعدل 8.7% للناتج المحلي الاجمالي في يونيو 2020 و 11.6% في العام 2019 و 9.7% في العام) بالمقارنة مع معدل التمويل في الدول الافريقية جنوب الصحراء و الذي بلغ 18.8% مما يوضح الفرق.
6. المساعدات الانسانية.. الدفع النقدي عبر الهاتف النقال لمساعدة الاسر خلال وما بعد الحرب
حتى ديسمبر للعام 2024 يغالب السودان أزمة غذائية متصاعدة ومزمنة فاقم منها استمرار الحرب وحركة النزوح. كشفت التقديرات الأخيرة بعد تحليل البيانات أن تصنيف الأمن الغذائي المتكامل أن أكثر من نصف سكان السودان وهو بما يقدر من 24.6 مليون مواطن يعانون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي (الدرجة 3 أو أكثر بمقياس تصنيف الامن الغذائي المتكامل) وذلك للفترة بين ديسمبر 2024 ومايو 2025، مما يؤشر لحدوث زيادة تقدر ب3.5 مليون مواطن عن التقديرات التي تم التنبؤ بها مبكراً. وبشكل مثير للقلق فإن أوضاع المجاعة (وهو مقياس الدرجة ال 5 من تصنيف الأمن الغذائي المتكامل) قد تم تاكيده في خمسة مناطق في السودان، وتشير التقديرات إلى أن ذات الأمر قد يحدث في خمسة مناطق أخري بحلول مايو 2025 إذا قدر للوضع المزري الحالي أن يستمر.
أصاب الصراع الدموي الحالي الذي اندلع منذ أبريل 2023 النشاط الزراعي في مقتل حيث تسبب في خراب المحاصيل وتدمير البني التحتية اللازمة لإنتاجها وتسبب ذلك في حدوث شح في انتاج الغذاء وفجوة غذائية، مما استدعي من منظمة الاغذية والزراعة (الفاو) أن تصدر مناشدة عاجلة للتحرك لإغاثة أوضاع المجاعة ومواجهة أي تدهور أكبر في أوضاع الأمن الغذائي.
ونظراُ لهذه الأوضاع تنادت منظمات المجتمع المدني ومفوضية الامم المتحدة للاجئين سوياً لاصدار نداء عاجل لجمع مليار دولار يخصص للاحتياجات الاساسية، بينما تفيد تقديرات أخري أن الاوضاع السيئة تتطلب ما يفوق 5 مليار دولار.
يقع العبء العملي في عودة الدعم المالي لأنشطة الاقتصاد على السودانيين أنفسهم، لذا من الضروري حشد الجهود لإنشاء منصة تعمل على تفعيل التحويلات النقدية للفئات المستهدفة عبر شبكات الاتصال والمصارف السودانية.
ذكر اليكس دي وال في مقال رصين صدر في صحيفة في السادس من يوليو 2023 أن الازمة الانسانية في السودان تستدعي منهج جديد لتسهيل للعون الانساني، ويتمثل ذلك في أن العون الانساني يجب أن يتخذ شكل دعم مادي مباشر للمواطنين المستهدفين. يمكن فعل ذلك من خلال توسعة مواعين نظام التحويل النقدي القائم، ومثل هذا النظام يمكنه أيضاً تفعيل تحويلات العاملين في دول الاغتراب والتي يمكن أن يكون لها أثر فعال أكثر من الغرض الانساني ويمكن ذلك أيضاً اصحاب المال والأعمال من العمل بفعالية أكثر. مثل هذه المنصة يمكنها من أن تستمد التجارب الماثلة من كينيا والصومال.
وقد أحدث الدفع النقدي المباشر ثورة باعتباره من الطرق السهلة التي يمكن أن يصل بها العون الانساني ، لذا تم تقديم مقترح منذ وقت مبكر لبنك السودان المركزي بان يتم توزيع الدعم النقدي عبر مشغلي شبكات الهاتف النقال بالتعاون مع بنك السودان المركزي عبر آلية احصاء المستفيدين، حيث تحول مشغلات شبكات الاتصال الدعم النقدي من أنظمتها الي حساب المستفيد ( حسابات مخزن القيمة) ، و يسمح هذا النظام للمستفيدين من إدارة حساباتهم عبر وكلاء شبكات الاتصال أو استخدام الرصيد المتوفر لإجراء معاملات مع التجار في الأقاليم المختلفة.
يمثل الدفع النقدي بالهاتف النقال خيار فعال لتقديم التحويلات النقدية حيث يعد استخدام الهاتف الجوال عالياً جداً في السودان، وفقاً لارقام قدمتها الهيئة العامة للاتصالات في العام 2022 يحمل 35.76 مليون مواطن سوداني هاتفاً جوال وبذلك يمكن أن يساعد الدفع النقدي عبر الهاتف قطاع عريض من المواطنين يسكنون المناطق الريفية النائية للوصول الي برامج تحويل المال للدولة دون اللجوء للسفر لمسافات شاسعة أو حتى فتح حساب في المصرف. حيث يعد السودان من أقل الدول في سياسة الشمول المالي في الدول الافريقية جنوب الصحراء حيث يملك 15.3% فقط من الناضجين حسابات مصرفية، ويحرم قطاع واسع من النساء والفقراء من خدمة فتح حساب في المصارف.
في غالب الأحيان يتطلب نجاح تحويل فعّال للاسر محدودة الدخل وجود نظام اثبات للشخصية موثوثق به مرتبط بمركز معلومات متكامل له جوانب اقتصادية اجتماعية، غياب مثل هذا النظام يتسبب في صعوبات متزايدة في دقة معلومات الفئات المعنية وذلك نفسه ما جري لبرنامج برنامج الدعم الأسري المعروف بثمرات خلال الفترة الانتقالية.
لاستخدام شبكات كبيرة أمنة لتحويلات الدعم النقدي المباشر خلال فترة الحرب من الضروري تقليل الإجراءات المنظمة والعقبات التي فرضها بنك السودان المركزي. في العام 2020 شهد بنك السودان المركزي تحول كبير من نظام مركزي إلى نظام لا مركزي فيما يخص نموذج التحويلات النقدية السائدة حيث أكتملت مطلوبات الترخيص ومزاولة العمل لشركات الدفع النقدي، سمحت هذه التغييرات لمشغلات شبكات الاتصال بالترخيص لعمليات الدفع النقدي إضافة لشركات مدفوعات أصغر وشركات تقنية أصغر لكي يزاولوا العمل. الاستجابة السريعة بتقليل وخفض القيود يدفع بعمل منصات الدفع النقدي للمستفيدين إضافة لاتاحة الفرص للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم والشركات الناشئة للانخراط في الخدمات المالية الرقمية.
من الضروري إحكام فعالية التشغيل البيني للخدمات بين الأنظمة التقنية المشغلة ضمن نطاق الدولة، هذا يمكن من تحويل جيد وفعال ولعمليات الشراء والبيع للمستفيدين والوصول الي التجار عبر هذه النوافذ التقنية. لإنجاز هذا العمل بكفاءة يتطلب الامر إستعادة الشركة السودانية للخدمات المصرفية لكامل نشاطها السابق بوصفها الذراع الفاعل لبنك السودان المركزي.
من الجدير بالذكر أن مباني الشركة السودانية للخدمات المصرفية قد تعرضت للخراب والتدمير التام خلال فترة الحرب مما أوقف أنظمة الدفع المركزية وفي القطاعات الاقليمية، بل وأكثر من ذلك توقف المحول القومي الذي تقوم عليه أعمال 32 مصرف مما تسبب في أضرار كبيرة، حيث لم يستطع عملاء المصارف من الدخول لحساباتهم للسحب حتى من خلال التطبيقات على الهاتف النقال أو من خلال أي قناة أخري. في الوقت الراهن تعمل فقط خمسة مصارف إعتماداً على مخدماتها التقنية الخاصة بها وعلى رأسها بنك الخرطوم.
رغم كل هذه الصعاب يسعي بنك السودان المركزي وفرق الشركة السودانية للخدمات المصرفية بجد إلى استعادة كفاءة كل الأنظمة الرئيسية والأنظمة المركزية على وجه الخصوص، حيث عاود نظام (سراج) الخاص بتنسيق عمل المصارف العمل بكفاءة منذ العاشر من سبتمبر 2023 ويجري العمل على الخطوة الثانية وهي شيكات المقاصة الالكترونية.
فيما يخص نظام الدفع النقدي الإلكتروني قد يكون الوضع معقد بعض الشيء حتى لو عاودت الشركة السودانية للخدمات المصرفية العمل بكفاءة، ورغم ذلك فإننا نحتاج لتغيير العقلية التليدة والانخراط في نقاشات مثمرة لاقتراح سياسة عالية التركيز وتنسيق أفضل بين بنك السودان المركزي والشركة السودانية للخدمات المصرفية وشركات الاتصال لضمان كفاءة التشغيل البيني بينها.
بالاضافة إلى الحلول التقنية الناجزة يجب مقابلة المشكلات الآنية الناشئة وذلك بإحكام التنسيق بين المرسل والمستقبل للمعاملة المالية وهي أحد أكبر المصاعب التي واجهت العمل المصرفي بعد الحرب. أحد أهم الحلول المقترحة لمواجهة هذه المشكلة تتمثل في إنشاء آليات الحوكمة لتطوير العمل وبث الثقة والتنسيق الكامل بين المرسل والمستقبل.
عل ذات المنوال يجب تنسيق العون الإنساني بشكل أفضل ووضع الأولويات بدقة ورصد تطورات التنمية بدقة إضافة للاستعداد المتواصل لمعالجة أي قصور في أنظمة الحوكمة، وتبرز تجارب ناجحة يجدر الاقتداء بها مثل تنزانيا التي نجحت في إقامة إطار متطور للمساءلة المتبادلة وعماد هذه التجربة الناجحة عمل جماعة مستقلة ترصد سير العمل وتقدم مراجعات كل فترة عامين لمساهمات المانحين والتقدم المحرز للحكومة بموازاة التزاماتها التي تعهدت بها للمانحين والمستحقين على حد سواء. بناءً على ذلك فإن تطوير كفاءة الدعم والمساعدات التنموية يهدف الي تطوير الجودة في تقديم العمل الانساني وذلك لتحقيق الاهداف المرجوة للسودان.
7. الطريق نحو التعافي
يحتاج السودان في الوقت الراهن إلى وضع خارطة طريق شاملة تساعد السودانيين للوقوف على قدميهم مرة أخرى، تتضمن خارطة الطريق تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية باستقطاب دعم الحكومة للفئات الأضعف وتقوية التقنية الرقمية لمساعدة الشعب السوداني في مواجهة تكلفة المعيشة العالية وتشجيع تقديم المساعدات عبر الهاتف الجوال لتصل إلى الأكثر حوجة.
وتتضمن خارطة الطريق إعادة تأهيل النظام المصرفي واستكشاف الخيارات لنقل مركزية التشغيل للمصارف وتنزيلها للولايات وإقامة مواقع بديلة للتعافي من الكوارث تسمح للمصارف للعمل حتى إذا تضرر المركز الرئيسي.
في مرحلة ما بعد الحرب تبرز الحاجة إلى حل سياسي يساعد في إنقاذ الاقتصاد، ولتخفيف الآثار الاقتصادية عن كاهل المواطن البسيط، بحيث يجب صياغة خطة تعافي اقتصادي شاملة تضع على رأس أولوياتها التأكيد على السيادة المالية وإشراف المدنيين على الاقتصاد حيث تعد هذه التدابير حتمية لا غني عنها لمستقبل التحول الديمقراطي في السودان. يقوم نجاح التحول المدني الديمقراطي على الحكم الراشد والشفافية ويقوم ذلك على أسس راسخة من إعلاء هدف الاستقرار الاقتصادي والتعايش السلمي والتوزيع العادل للموارد الاقتصادية لكل السودانيين على حد سواء.
يجب أن تتماشي الإصلاحات والتدابير اللازمة للاقتصاد في مرحلة ما بعد الحرب مع بنود الإصلاح التي أوجزتها تفاهمات السودان وصندوق النقد الدولي لإستراتيجية الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات المسلحة، تقدم هذه الإستراتيجية إطار عمل لمواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه الدول التي خرجت للتو من دائرة الصراعات والنزاعات، من شأن هذه تطبيق هذه الاصلاحات أن يساعد في استقرار الاقتصاد والنهوض بالحكم الراشد ودفع الجهود للتنمية المستدامة لمرحلة ما بعد الحرب.
في الختام، من الأهمية بمكان الاهتمام بتعزيز الاقتصاد السياسي والإدارة الراشدة للموارد الطبيعية، وتزداد أهمية هذه التدابير نظراً للأثر الكبير الذي أحدثته التجارة غير المشروعة للذهب ولتدفقات المالية الهائلة التي أعاقت مسار التحول المدني الديمقراطي، ومجابهة هذه التحديات وتجاوزها بنجاح يعد ضرورة قصوى للتعافي الاقتصادي.
المصادر
- د.ابراهيم البدوي، رؤي اقتصادية حول مصير السودان بين تصورين ، سمنار في معهد السلام .واشنطن دي سي .الولايات المتحدة .يوليو 2023.
- أليكس دي وال : السودان ، فرص تجنب انهيار الدولة .23 مايو 2023.
- تقارير منظمة الاغذية والزراعة (الفاو) عن السنوات خلال فترة الحرب.
- الشفافية السودان وراصد السياسة , يوليو 2023. النظام المصرفي أثناء وبعد فترة الحرب: التحديات والتوصيات للسياسة المتخذة.
- وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي. الميزانية العامة للدولة 2023.
- تقرير صندوق النقد الدولي. مارس 2022، ورقة سياسة عامة حول إستراتيجية صندوق النقد الدولي للدول الهشة والمتأثرة بالصراعات.
- تقرير صندوق النقد الدولي .2019 السودان. مشاورات المادة الرابعة. تقرير صندوق النقد الدولي الُقطري رقم 72/20 ، صندوق النقد الدولي.واشنطن دي سي . الولايات المتحدة. مارس 2020
- تقرير صندوق النقد الدولي .2016 السودان. مشاورات المادة الرابعة. تقرير صندوق النقد الدولي الُقطري رقم 16/324، صندوق النقد الدولي. واشنطن دي سي. الولايات المتحدة. يوليو 2016
- بنك السودان المركزي. التقارير السنوية 2010/2021 . موجز احصائي للتجارة الخارجية 2011. الربع الرابع 2022. مراجعة مالية واقتصادية.