كمبالا-سودان سكوب

في ظل الصراع الدائر الذي يمزق السودان، عادت قضية العدالة الانتقالية لتتصدر النقاشات كسبيل وحيد محتمل لتحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي. فندق (فيروي) بالعاصمة الأوغندية (كمبالا) استضاف ورشة عمل تدريبية نظمتها منظمة "كونفليكت داينمك" في الفترة من 19 إلى 21 يونيو 2024، ركزت على أهمية العدالة الانتقالية في السياق السوداني الراهن، ودورها في بناء حكم مدني ديمقراطي يكفل العيش الكريم لكل أفراد الشعب.
اتفق معظم الخبراء القانونيين المشاركين في الورشة على أن العدالة الانتقالية هي مجموعة من الإجراءات والتدابير، بعضها قانوني وقضائي، تهدف إلى معالجة الإرث الثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان. غايتها تمكين المجتمع من أسباب الاستقرار والسلم الاجتماعي بعد حقبة من الحروب، وتحقيق المصالحة، بالإضافة إلى ضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل.
وللعدالة الانتقالية أمثلة حية على مستوى القارة الإفريقية، لعل أبرزها تجربة جنوب إفريقيا. فبعد حقبة من الفصل العنصري، أدت الجهود هناك إلى تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة، التي كانت جزءاً من رؤية شاملة لمعالجة إرث الانتهاكات السابقة. اعتمدت جنوب إفريقيا نموذجاً مرناً للعدالة الانتقالية، يجمع بين الاعتراف بالحقيقة والمحاسبة الأخلاقية، دون الاقتصار على العدالة الجنائية الصارمة.
أثارت الورشة نقاشات مكثفة، أبرزها أن الانتهاكات التي شهدها السودان ليست وليدة اللحظة، بل هي سلسلة ممتدة من الحروب منذ استقلال البلاد. غير أن الصراع الدائر حالياً يمثل مرحلة مفصلية عمت كل السودان وتضرر منها كل أفراد الشعب.
وأكد المؤتمرون أن المخرج الوحيد يكمن في ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بعد وقف الحرب، مع التأكيد على عدم ربط الانتهاكات التي تعرض لها الشعب السوداني بأي قبيلة أو طائفة أو حزب سياسي.
في المقابل، يرى آخرون أن الحركة الإسلامية ارتكبت ظلماً يفوق الانتهاكات التي حدثت في الماضي، بما في ذلك إشعال نار الحرب الحالية التي شردت الشعب السوداني وجعلته ما بين نازح ولاجئ، مما تسبب في تغييب العدالة الانتقالية.
تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية أن الانتهاكات التي شهدها السودان نتيجة للصراع القائم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تختلف من منطقة لأخرى، وذلك بناءً على طبيعة الصراع (التركيبة الاجتماعية والانتماءات الحزبية). كما أن مقاومة الشعب لهذه الانتهاكات تعكس التحديات الكبيرة لضرورة وجود مصالحة اجتماعية أولاً، ومن ثم فترة حكم انتقالي يقود إلى عدالة انتقالية.
و اتفق المشاركون في الورشة على ضرورة معالجة المشكلة من جذورها، بدءاً باستعراض جميع الأحداث التاريخية التي أدت إلى الظلم والانتهاكات، ومن ثم محاكمة الجناة. إلا أن البعض يرى أن مسألة محاكمة الجناة الذين ارتكبوا جرائم في فترات زمنية سابقة قد تكون غير واردة، بسبب وجود بعض الأحداث التي تسقط بحق التقادم لمرور فترة زمنية طويلة.
في تصريح لـ"سودان سكوب" يرى الخبير القانوني عمرو كمال أن إمكانية تطبيق العدالة الانتقالية في السودان ممكنة إذا توقفت الحرب، ولكن لا بد من وجود مصالحة اجتماعية بين أفراد الشعب السوداني فيما بينهم، ومن ثم مع الدولة. وأضاف أن الأمر يتطلب عدالة انتقالية حقيقية تلامس وجدان الشعب السوداني.
وأكد كمال أن كل الافتراضات التي أدرجت من أجل تطبيق العدالة الانتقالية في السودان واردة ومتوقعة في نفس الوقت، ولكن لا بد أن تقترن بالسؤال البديهي: "هل تتم بصورة سليمة ومتكاملة؟" وشدد الخبير القانوني على أن أي تطبيق للعدالة الانتقالية ما لم يصطحب معه التخطيط السليم والصور الصحيحة للتطبيق، فإنه يعني العودة لمربع الحرب الأول. وأوضح أن تطبيق العدالة الانتقالية يتم بعد وجود حل سياسي للصراع الدائر في السودان وتأسيس فترة انتقالية يتم فيها تطبيق العدالة الانتقالية التي تقود إلى حكومة مدنية ديمقراطية.
و على الرغم من التحديات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية بعد توقف الحرب الدائرة في السودان، أشار المشاركون في الورشة إلى عدة مبادئ يمكن بدورها أن تقود إلى تطبيق عدالة انتقالية شاملة، منها:

  • المحاكمة الجنائية: سواء كانت على المستوى الدولي أو الوطني، تلعب دوراً حيوياً في محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
  • لجان الحقيقة والمصالحة: تهدف إلى كشف الحقائق المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتقديم توصيات للتعامل مع الماضي.
  • التعويضات والجبر: تسعى إلى تعويض الضحايا عن الأضرار التي لحقت بهم نتيجة الانتهاكات الجسيمة.
    و يبقى السؤال هل يمكن لهذه المبادئ أن ترسم خارطة طريق نحو مستقبل أكثر عدلاً واستقراراً للسودان؟ أم أن تعقيدات الصراع ستبقى عائقاً أمام تحقيق العدالة الشاملة؟