هايلي منقريوس: التغييرات في السودان لن تكتمل إلا بحكومة مدنية كاملة الدسم

هايلي منقريوس دبلوماسي ضليع وخبير في قضايا الوساطة وفض النزاعات الإفريقية. ويعمل في الوقت الراهن مستشارا لمركز مهتم بالحوار الإنساني. كرس هايلي حياته العامة لدفع قضايا السلام والأمن في العالم. وبصفته المندوب الخاص السابق للأمم المتحدة للسودان وجنوب السودان لعب دوراً كبيراً في مساعي الوساطة خلال فترة الصراع بين الدولتين، حيث تمكن من وضع حد لواحدة من الحروب في القارة الإفريقية وقادها إلى نهاية سلمية عبر آلية التفاوض والحوار في العام 2011، وتم ترشيحه حينها لجائزة نوبل للسلام لنجاحه في حل هذه المعضلة، كما عمل في عدد من البؤر الساخنة في إفريقيا، على غرار جمهورية الكنغو الديمقراطية ومدغشقر والصومال وزيمبابوي.

في آخر مهامه عينه الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بانكي مون، رئيسا لمكتب الأمم المتحدة والممثل الشخصي له للاتحاد الإفريقي في العام 2013. وبفضل خبرته الواسعة في العمل الدبلوماسي والقضايا السياسية الشائكة في إفريقيا وإحلال السلام تمكن هايلي من الاسهام بفعالية في تعزيز الاستقرار عبر مختلف أرجاء الإقليم.

أدناه مقتطفات من مقابلة أجرتها "سودان سكوب" هايلي بشأن الصراع الدائر في السودان، ودور القوى الإقليمية والدولية المفضي إلى سلام مستدام.

_______

بوصفك دبلوماسيا متمرسا وخبيرا وملما بالواقع السياسي السوداني المعقد، ما الطريق المناسب لخروج السودان من الحرب وتفادي دورات النزاعات المحتملة؟

هايلي: أولا، مثل ما هو الوضع في كثير من الدول الافريقية فإن السودان ثري في تنوعه الإثني والثقافي واللغوي والديني. ورغم هذه المعطيات فإن السودان منذ استقلاله ظل على وضع شائه، احتكرت نخبة حاكمة في الخرطوم تعريفه وحكمه بوصفه، فقط، دولة عربية وإسلامية، واستمر التهميش لغير العرب ولغير المسلمين في الأطراف النائية مما أحدث نزاعات شديدة وثورات جمة، خصوصاً منذ تسنم الإسلاميين مقاليد الحكم، مما أقصى تلك الجماعات بشكل أكبر.

ثانياً: حازت مؤسسة الجيش في السودان على السلطة والموارد، بوجه مباشر أو غير مباشر، لفترات متطاولة. وبهيمنة الإسلاميين على هذه المؤسسة، لم يعد الصراع بين النخب الحاكمة والمهمشين في الأطراف فقط، بل أدى ذلك إلى إفقار كلي للفئات الأدنى في البلاد وعدم مساواة متجذر. تراكمات ذلك أفضى، في خاتمة المطاف، إلى نشوب ثورة شعبية عمت أرجاء البلاد في العام 2019 . اتسع نطاق الصراع بعد ذلك ليصحب له أبعاد إثنية وطبقية حادة. احتدام التنافس بين طرفين من المؤسسة العسكرية ونشبت الحرب بينهما وطمست طبيعة جذور الصراعات، ولكنها بالطبع لم تغير منه.

هناك حاجة لفهم أعمق لطبيعة الصراع مزدوج الطبقات، وتبني استراتيجيات ملائمة تفضي إلى فض النزاع. لا خلاف أن الغالبية العظمي من السودانيين يرغبون في قيام (سودان موحد وديمقراطي يسوده السلام)، وهو طريق مضى فيه بالفعل الكثير من السودانيين.

ما الاستراتيجيات التي أثبتت نجاحها وفعاليتها للتوسط بين الجماعات التي يشوبها الاستقطاب بحدة؟

هايلي: التجربة التي يمكن الإشارة إليها لاستخلاص الدرس هي ما فعلته (إيغاد) لحل الصراع بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان (2005). قامت طرح (إيغاد) على إعلان مبادئ عرضت على حكومة السودان للقبول بعلمانية الدولة أو قبول حق مواطنين جنوب السودان بالبقاء جزءا من الدولة تحكمه الايدولوجية الإسلامية، أو الحق في الانفصال لتكوين دولة مستقلة. قبول هذا المبدأ من كلا الطرفين كان نقطة الالتقاء الجامعة لتسوية الصراع، غير أن ذلك لم يستتبع بقية القوميات المهمشة الأخرى داخل السودان.

كيف يتسنى للوسطاء طرح حلول غير منحازة تنال رضا الأطراف المتصارعة؟

هايلي: عدم الانحياز لطرف من الأطراف المتنازعة لا يعني الحياد، هنالك اختلاف كبير بينهما. لكن يجب على الوسطاء الاستماع جيدا للمواقف والمقترحات للأطراف المتفاوضة والتزام عدم الانحياز في مساعدتهم للوصول إلى حلول يرضونها. يجب على الوسيط أن يتحقق من مراعاة المبادئ الهادية للعالم الآن: حقوق الإنسان والحقوق الأساسية التي لا تقبل الإقصاء والإبعاد، مثل حقوق الأقليات، ويجب ألا يكون الوسيط محايدا تجاه هذه المبادئ. عندما تكون غير منحاز يعني ذلك أن تضمن احترام ومراعاة هذه المبادئ الراكزة بما فيها القانون الدولي والمساواة من كل الأطراف المتفاوضة. على سبيل المثال، فإن الأطراف المتفاوضة قد ترغب في تبرئة ساحتها من جرائم ارتكبها أحد، أو أي من الأطراف، ضد المدنيين أثناء فترة القتال، عندها ينبغي للوسيط أن يشير وينوه الأطراف المتفاوضة أو أي من الأطراف التي تنشد العفو العام عن الجرائم المتحقق من ارتكابها ضد المدنيين الذين لم يشتركوا في القتال، إلى وجوب الإقرار بها وطلب الانصاف من الضحايا أنفسهم أو أهل الضحايا من مثل هذه الجرائم التي تم الاتفاق على تجريمها دولياً.

كيف يمكن للعقوبات الدولية إرغام الأطراف المتحاربة للدخول في تفاوض بناء لإحلال السلام؟

هايلي: ضربة البداية لذلك يجب أن تكون من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لتكييف الوضع بأن الصراع السوداني لم يعد انتهاكا لحق الشعب السوداني للعيش في سلام فقط، بل يهدد الأمن والسلام، الإقليمي والدولي، وهذا ما يرغم الأطراف المتحاربة على اللجوء لطاولة التفاوض أو مواجهة العواقب الوخيمة. أعتقد أن ذلك سيضع ضغوطا عليهما للقبول بالتفاوض أو القبول بوقف إطلاق النار، كحد أدنى، إذا لم يتسن الوصول إلى حلول جوهرية للمشكلة. وما زال بإمكان الشعب السوداني الضغط بهذا الاتجاه أيضا.

للأسف فإن معطيات جديدة حلت وأسفرت عن واقع جديد تشوبه تصدعات متزايدة مبنية على مصالح متضاربة لفاعلين دوليين يُزْكُون الصراع مما أضعف المؤسسات الدولية التي تقع مسؤولية الأمن الجماعي على كاهلها، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث شلت قدرته على الفعل. هذا العجز فتح الباب على مصراعيه للمتنافسين الإقليميين للتدخل السافر ومساعدة أحد الأطراف للتصعيد وإلحاق الأذى بالسودان، شعباً ومقدرات.

على ضوء انتهاكات الطرفين الممنهجة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب والعنف الجنسي، كيف يمكن الاستفادة من الأدلة لتحقيق العدالة أو فرض عقوبات أكثر صرامة يدعمها المجتمع الدولي لخفض حدة العنف على المدنيين؟

هايلي: مرة أخرى أقول إن الدفاع الدولي الراسخ للمبادئ الجامعة لحقوق الإنسان والشعوب تضعضع بشدة بسبب الصراعات بين قوى دولية فاعلة، ورغم ذلك يحتم ذل الضغط ولفت الانتباه. إن عدم الانتباه ومراعاة تلك المبادئ في السودان أدت سلباً إلى تمدد الآثار الضارة على صعيد الإقليم القريب وعلى المستوي الدولي، هذا ما يجب على الضحايا في السودان ومناصريهم وقادتهم الدفع بشدة باتجاهه. سعت عدة منظمات مجتمع مدني في السودان لعكس مأساة الشعب السوداني الماثلة، أعتقد أن إعطاء الأولوية، بذات القدر وبوتيرة متصاعدة وأكبر، من جانب الجماعات السياسية لمثل هذه الحملات أجدر أن يحتذى.

باعتبار مهددات الصراع على أمن البحر الأحمر وقضاياه، وخطر الإرهاب الدولي على الأمن الإقليمي والدولي، كيف يمكن أن تقود هذه المخاوف المجتمع الدولي لتصعيد الضغوط للدفع نحو حل سلمي للصراع؟

هايلي: القوى الرئيسية في المجتمع الدولي تدرك تماماً ما يمثله النزاع على أمن البحر الأحمر وعلى طرق التجارة الدولية، لكن يرتابني الشك في رؤيتهم للحرب الدائرة في السودان ما إذا كانت تمثل خطرا جسيما على أمن البحر الأحمر. للعديد من هذه القوى الدولية قواعد ذات طبيعة عسكرية في دول إقليمية، مثل جيبوتي، وهي تراقب تطورات الوضع في السودان ومنطقة البحر الأحمر عن كثب. من الواضح أنه حتى الآن لا ترى القوى الدولية في حرب السودان مهددا أمنيا كبيرا يستدعي تدخلا عاجلا لحماية المصالح. استخدام مصطلح "أمن مشترك" لحشد الدعم يعد أيضاً أمر محفوف بالمخاطر، حيث لا يتشارك الكل الخطأ والصواب في التعامل تجاه تلك المهددات. لذا، يجب التعامل بحصافة لفهم من الذي تريد أن تلفت انتباهه للتأثير بهذا الوجه أو تلك نحو الخطر المعين، حتى تضمن ألا يتم استغلالك والاستفادة منك، أو تصنع، بغير ضرورة، أعداء آخرين في نفس الوقت.

مع تداعيات الحرب التي بلغت مستويات حرجة في السودان، كيف يمكن للعالم أن يستجيب لتلك التحديات الملحة ويحشد الموارد للأمن والسلام؟

هايلي: أعتقد أننا بحاجة لنصبح أكثر واقعية ولنبدأ بإفريقيا، إذا لم تتحقق مقولة "الوحدة في التنوع" في السودان فمن غير المتوقع أن تفلح في إفريقيا إجمالاً، وهو الهدف من إنشاء منظمة الاتحاد الإفريقي، غير أن الكثير من الدول الإفريقية الآن تجوس في مشكلات من صنع نفسها، وبالكاد تسعى لجعل ذاك الهدف أسبقية. على المستوى الدولي أيضاً، بلغت تداعيات حرب السودان أمن واستقرار منطقة الساحل برمتها وحوض البحر الأحمر مستوى الخطر، وتنذر بتداعيات أشد حال استمرارها. أعتقد أن الكثيرين يدركون ذلك، غير أنه لمصالح قطرية عاجلة واعتبارات أخرى بدلاً من مصالح الإقليم والعالم بأكمله، هي ما تشغل دول الإقليم وتحظى باهتمامها، أو حتى المنظمات العالمية نفسها تغض الطرف في الوقت الراهن. أعتقد أنه يتوجب على النشطاء السودانيين معرفة ذلك ومن ثم عليهم تطوير طرق عمل من اجتهادهم لحشد شعبهم حول الأولوية المرجوة، ومن الممكن تحقيق ذلك، حينها يمكن للآخرين أيضاً أن يهرعوا لبذل الدعم والعون.

كيف يمكن للفاعليين الخارجيين والحلفاء والأصدقاء الانخراط في مساعي إحلال السلام وجهود المصالحات دون الولوغ في إزكاء التصدعات والانشقاقات أو فرض الأجندة الخاصة بهم؟

هايلي: المؤسسات الدولية الفاعلة، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، وإلى حدٍ ما الاتحاد الأوربي والجامعة العربية، وإلى آخر ذلك من المؤسسات الأخرى والمنظمات الدولية المستقلة، هي في وضع المحايد في اختيار من تريد وكيف تريد لتدعم إحلال السلام وتشجيع المصالحات. على الرغم ذلك، في نهاية الأمر، يجب على المجتمع المعين الذي أصابته الأزمة تحديد حاجاته واجتراح حلول لما يعاني، وصياغة استراتيجيات تخصه وبرامج للمصالحات وإعادة البناء والتعمير وتقديم عون دولي مباشر للفئات الأكثر حاجة. تجري المصالحات حين تنسجم وتتسق المصالح مع بعضها وتنصف المظالم القديمة، طرق باب العدالة الانتقالية من شأنه إنصاف الضحايا وأسرهم.

وفقا لخبرتك وتقديراتك، ما أولوية المجتمع الدولي في السودان: جلب الاستقرار أم دعم التحول الديمقراطي؟

هايلي: تتكون الدول لحماية مصالح المواطنين، لذا، وبقسط وافر، فإن الأولوية تتمحور حول ضمان الأمن والاستقرار أكثر من السعي نحو التحول الديمقراطي، ذلك فيما يتصل بعلاقاتها بالدول الخارجية الأخرى، ولكن يبرز سؤال: ما الذي يقود نحو الاستقرار؟ هل بإمكان دولة صنع الاستقرار والمحافظة عليه دون انسجام داخلي؟ بمعنى آخر، هل يمكن إحداث استقرار دون وجود الحد الأدنى من شروطه؟ ويبرز تساؤل آخر: كيف تقدر الدولة المعينة أن مصالحها قد تأثرت بعدم الاستقرار ضمن الآخرين، وما الشيء الذي كان له الأثر الأكبر على مصالحها؟ ولنضرب مثال بالولايات المتحدة، ولننظر كيف تعتبر وتقدر حجم مصالحها الحيوية التي تأثرت بالحرب في السودان ومضاهاة ذلك بالصراعات الأخرى في أوكرانيا وفلسطين واليمن، ومن ثم اصدار قرار وفقاً لذلك.

يتحتم على شاغل المنصب في السودان، الذي يريد دعم الديمقراطية والاستقرار في بلاده، التساؤل والإجابة عن كيف قاد عدم الديمقراطية المرجوة في السودان والصراع المستعر الآن إلى عدم الاستقرار، وكيف أثر عدم الاستقرار في مصالح ذلك البلد.

صار الوضع الأمني على طول الحدود بين السودان وتشاد هش للغاية مما أثار مخاوف من وجود محتمل لجماعات إرهابية، هل ذلك يشكل خطراً، ليس فقط للإقليم، بل للسلم والأمن العالميين؟ هل تعتقد أن المجتمع الدولي يضع الاعتبار لحجم هذا الخطر؟

هايلي: نعم. إني متأكد أن الكثيرين في المجتمع الدولي يدركون هذا الخطر المحتمل، ورغم ذلك تنقصهم الرغبة والإرادة في التحرك لفعل شيء.

خلال العقدين الأوائل لهذا القرن، كان هناك وعي عميق ومعرفة تامة في تلك الدول المكونة لإقليم الساحل والصحراء بخطورة هذه الجماعات المسلحة التي تمارس نشاطها خارج سيطرة الدولة على نطاق الإقليم، وعمدت الدول المتأثرة بنشاط هذه الجماعات إلى تكوين حلف جامع وهو (مجموعة دول الساحل الخمسة) لمحاربة هذه الجماعات وقد نجحوا نسبياً في القضاء عليها.

لا يجب السماح بوجود جماعة مسلحة تعمل بنشاط لتهديد أمن الآخرين. للأسف نشأت نزاعات داخلية أدت إلى خلق الصراع الدائر في السودان، ومثله في ليبيا، مما قاد إلى خلق فراغ في السلطة وخلق بيئة مواتية لنشوء هذه الجماعات الإرهابية والطائفية المارقة، وممارسة أنشطتها الإجرامية. خلق الفراغ في السلطة بيئة ملائمة لعمل الجماعات الدولية المارقة، مثل العمل والنشاط الذي تقوم به جماعة فاغنر (يطلق عليها الآن الكتائب الإفريقية) وهي مثال ناصع لتلك الجماعات.

يعلم مجلس الأمن والسلم بالاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن الدولي بوجود مثل هذه الجماعات في الإقليم، وقد قاموا في أوقات بإصدار قرارت بإدانة هذه الجماعات، غير أنهم عجزوا عن إتخاذ موقف جماعي لكبح هذه الجماعات. على ذات المنوال فشلوا، أيضاً، في وصف الصراع الدائر في السودان باعتباره مهددا للسلم العالمي، حيث كان إعتبار ذلك خطوة مهمة لحشد عمل جماعي لدعم الاستقرار. مصالح الدول العظمي ودائرة مصالحها ليست محصورة على نطاق إفريقيا بأسرها، وليست على السودان على وجه الخصوص، إفريقيا نفسها لم تتخذ إجراء له مغزى للسيطرة على الجماعات المتفلتة في الساحل أو السودان، حيث تنخرط في صراعات لا تخبو في مناطق أخرى من القارة، وهي، في الوقت الحالي، ضعيفة وواهنة ومنقسمة على نفسها.

بوجود العديد من المنصات التي تعمل للوساطة في الصراع الدائر في السودان لإيقاف الحرب واستعادة السودان لمسار التحول المدني الديمقراطي، كيف يمكن توحيد هذه الجهود لمنع التضارب والتناقض وتطوير فعاليتها؟

هايلي: تؤمن الأمم المتحدة أن المنظمات الإقليمية يجب أن تلعب دورا رائدا في فض النزاعات داخل الإقليم ذاته، هذا المبدأ ينطبق على الصراع في السودان، وبسبب ضعف وتشظي (الإيغاد) يجب على الاتحاد الإفريقي قيادة الجهود للتنسيق بين (الإيغاد) والجامعة العربية والأمم المتحدة والكيانات الأخرى، وكما ذكرت سابقاً فإن الضعف البائن للاتحاد الإفريقي والتشظي داخل (الإيغاد) وانشغاله بالأزمات الأخرى قد أعاق فعاليته. وبدلاً من الانتقاد المثبط يتوجب علينا تشجيع ودفع الاتحاد الإفريقي للقيام بمسؤوليته القيادية وتعزيز دوره الطليعي لتنسيق جهود الوساطة. نتطلع أن تقوم القيادة الجديدة في مفوضية الاتحاد الإفريقي بالعمل أفضل مما سبق في هذا الاتجاه.

كل من الطرفين المتحاربين في السودان يعتمدان، بشكل متزايد، على ميليشيا متحالفة، ما المخاطر الناجمة عن هذا الفعل على صفقة سلام محتملة؟

هايلي: يوصف القتال دائماً أنه بين طرفين، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إلا أنه في الواقع تقوم المليشيات المتحالفة مع بدور بارز في كل طرف، ويتزايد نفوذ كل مليشيا متحالفة مما يصعب من السيطرة عليها، لا سيما إذا نجح الخصوم الرئيسين في عقد صفقة سلام.

دون وجود جبهة مدنية قوية ومتحدة فإن هذه الجماعات المسلحة باستطاعتها تقويض أي عملية سلام، حيث يكمن الحل في حشد القوى المدنية في تحالف عريض مناهض للحرب وقادر على قيادة عملية السلام وتشكيل ملامح السودان الجديد. ولحدوث ذلك فإن على الجماعات المدنية، خصوصاً فئات الشباب، معرفة جذور الصراع في البلاد وسوء إدارة التنوع والموارد، وذلك حسب ما أرى، وضرورة تبني حلول صحيحة تضمن العدالة والمساواة لكل السودانيين على حد سواء، وبذلك يتم ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية.

في هذه الحرب المستعرة حدثت فظائع شنيعة وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، كيف يمكن لجهود المصالحات أن توازن بين الحاجة إلى العدالة ومطلب السلام المستدام؟

هايلي: العدالة الانتقالية هي المفتاح لإحداث التوازن، حيث أن الحروب بطبيعتها تفكك الأنظمة الموجودة لبنية العدالة المجتمعية، وحين يسود السلام يبقى التحدي الماثل هو: كيف ننصف ضحايا المظالم التي ارتكبت إبان الحرب.

أفضل السبل تتمثل في تواضع الناس على إطار يجمع بين المسائلة وتعويض الضحايا والمصالحة، ولا تعني العدالة الانتقالية تناسي الجرائم والانتهاكات التي حدثت في الماضي، بل إنشاء آليات، لا تنصف وتعوض الضحايا فقط، إنما تعمل على حماية الأشخاص حتى لا تتكرر ذات الانتهاكات يوماً ما مرة أخرى. يجب على المجتمع السوداني قيادة هذه العملية والجمع بين ميثاق أخلاقي ملزم، مع ذاكرة جماعية حاضرة لتحقيق كل من قيم العدالة والمصالحة المجتمعية.

ما العواقب المتوقعة حال فشل السودان في تبني نموذج للحكم الراشد عبر نظام فيدرالي ديمقراطي؟

هايلي: تفيد دروس التاريخ أن الوشائج بين الأقاليم داخل الدولة القطرية تسير دوماً نحو الاستقرار، وأن المجتمعات ذات الإثنية المتعددة والمجتمعات متعددة الثقافات (كما في الامبراطوريات السالفة في التاريخ) تسير حتماً تجاه بث الديمقراطية، أو التشظي والانحلال، ومجتمع السودان ليس بدعاً من هذا؛ ولأنه افتقد الحنكة في إدارة التنوع وجعل الوحدة خيارا جاذبا فقد بدأ بالفعل في التشظي مثل ما حدث لجنوب السودان حين انفصل وكون دولته المستقلة. إذا قدر للايدلوجية الإقصائية السائدة الآن الاستمرار، وهي تعريف هوية السودان بوصفه بلدا عربيا إسلاميا فإن الكثير من السودانيين في أقاليم دارفور وكردفان والنيل الأزرق قد يطالبون، في تاريخ قريب، بالانفصال، وبذلك قد نشهد صفحة جديدة في تشظي السودان.

يقدم النظام الفيدرالي في إثيوبيا نموذجا مفيدا يصلح للدراسة، حيث اعترف النظام الفيدرالي بالتنوع ووجد القبول من الجميع، إلا أن أحد أوجه القصور البائنة تمثلت في أنه، رغم أن النظام الفيدرالي يقوم على تقاسم السلطة بين حكومات الأقاليم المختلفة والحكومة المركزية، فإن قلب الحكم يقوم على حكومة ذات مركزية قابضة يهيمن عليها حزب واحد. يشوه هذا العيب مجمل النظام القائم، مما حدا بالأقاليم موالاة الثورات المسلحة. ينبغي على السودان التعلم من هذه التجربة وانتهاج نظام اتحاد فيدرالي لا مركزي يعبر عن كل المجتمعات ويمكنها من السلطات المتساوية على حد سواء.

تسيطر المؤسسة العسكرية على سلطة مطلقة في السودان، كيف يمكن إعادة هيكلة ذلك الوضع الشائه وإعطاء الأولوية للحكم المدني؟

هايلي: يجب أن يبدا الإصلاح في المؤسسة العسكرية بتوافق مجتمعي عريض على الحكم المدني. القوات المسلحة ينبغي أن تكون مؤسسة تابعة للدولة، تقوم بمهامها في الدفاع عن البلاد وليس حكمها. وعلى الحكومة المدنية تعريف دور الجيش وحصره في الدفاع عن الوطن دون إتخاذ ميول سياسية أو نزعات طائفية أو انخراط في أي عمل، ويعمل وفق ميزانيات تحددها وتخصصها الدولة. تحالفات الجيش يجب أن تمليها المصالح الوطنية التي تحددها الدولة وليست المصلحة الشخصية للقادة العسكريين. ولبلوغ هذه المرحلة يجب على السودانيين أن يتحلوا بالواقعية ويؤمنوا أن هذه التغييرات تكتمل خلال عملية متدرجة. الواجب الحتمي أن هذه التغييرات يجب أن تتم تحت ظل حكومة مدنية كاملة الدسم.

بناء على خبراتك الواسعة بوصفك مندوبا خاصا، ما النصيحة الأكثر قيمة التي تريد أن تنصح بها الوسطاء الذين يعملون في مناطق النزاعات؟

هايلي: على الدبلوماسيين والوسطاء المحتملين معرفة أن الذين ينخرطون في القتال يعرفون ما يريدون ولماذا يريدون ذلك، وأنهم قد قرروا طواعية المضي للقتال لما يريدون. ضع في الحسبان أن معظم الخصوم أحصوا ما يودون كسبه من مغنم عند خوضهم الحرب، وليس ما يكلفهم عناء ذلك، أي ما يتوجب عليهم دفعه في المقابل. الوسيط الجيد ينطلق من استيعاب تلك المعطيات، ويتأكد أن كل طرف قد حسب تكلفة الحرب أيضاً. لذا، وقبل اقتراح أي من الحلول، يجب على الوسيط سؤال كل الأطراف: كيف يرون وضع حد للصراع. وحتى لو اقترح الوسيط حلا، يجب أن يستصحب ما اقترحته الأطراف، كل على حده. الشعور بأن ما اقترحته الأطراف وجد اعتباره يعزز ثقة الأطراف في حياد الوسيط. وقد تعلمت من التجارب والخبرات أن الطريق ليست الحكمة والحدس الشخصي في كيف يتسنى حل الأشياء، بل الاستعداد للإصغاء للأطراف واعتبار ما يقولونه. هذا ما ساعدني على مساعدتهم أيضاً. لذا، من الممكن أن يصل الناس إلى ما مفاده: إلى أين مضت بهم مكتسباتهم وخسائرهم من الحرب، ومن ثم إصدار قرار بالمضي في هذا الطريق أو ذاك.

ما كلمتك الأخيرة؟

هايلي: في هذه السانحة أريد أن أشيد بالشباب الذين لعبوا دوراً كبيراً في السودان وفي كل إفريقيا. الصعوبات والشدائد دوما تخرج أفضل ما في الإنسان، وقد رأيت الجيل الناشئ يحدوهم الأمل والتحدي.

هذا الإقليم من إفريقيا به موارد ضخمة، غير أن الصراعات الداخلية والإقليمية قد أنهكته بالكامل، أضف إلى ذلك سوء إدارة هذه الموارد. قيام سودان ديمقراطي وعلى طريق التعافي والتقدم سيغير قواعد اللعبة وييتحول السودان إلى مركز لتنمية الموارد الطبيعية للمنفعة المشتركة إذا عملت الدول على ابتدار العمل الجماعي. دعنا نحلم بمستقبل واعد يعمل فيه السودان وإثيوبيا ومصر، وبقية الدول في حوض النيل، على تكوين تجمع يعمل على الاستفادة القصوى من مياه النيل وينتفع منه الجميع. وحدهم الشباب وبمقدورهم تحقيق هذه الرؤية، يجب عليهم النظر بعيداً في الآفاق وأن يعملوا نحو إقليم متحد ومزدهر ويلحقوا نموذج الإقليم بنموذج إفريقيا على المدى البعيد، وهو هدف يمكن تحقيقه بالتدرج خطوة خطوة. حتى أوروبا تجاوزت ماضيها المرير الممتد لآلاف السنين من التنافس والاضطراب الداخلي، فرضت عليها الضرورة وجهة التحول الاقتصادي والازدهار ومضت قدماً في ذلك الطريق.