تخيل أنك تنجو من جحيم حارق، لتجد نفسك تائهاً في برية مقفرة، تكافح من أجل البقاء ضد عدو غير مرئي. هذا ليس محض رواية ديستوبية؛ بل هو الواقع المرير لعشرات الآلاف من مواطني الفاشر بالسودان، العالقين في قبضة حرب وحشية مستمرة منذ ما يقرب من عامين. رحلتهم هي ملحمة مروعة، هروب يائس من موت محقق إلى حياة تتأرجح على حافة المستحيل.
بالنسبة للكثيرين، قادتهم الموجة الأولى من النزوح إلى منطقة (خزان جديد) ، وهو مخيم مؤقت أصبح بوتقة للصمود.
هنا، استقرت العائلات التي فرت من الصدام الأولي للجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في وجود محفوف بالمخاطر. لأكثر من عام، عاشوا بالكاد يمتلكون مقومات الحياة الأساسية، ودعواتهم للمساعدة ترتد دون أن يسمعها أحد عبر الصحراء الشاسعة اللامبالية. لقد نجوا من التهديد المباشر للرصاص والقنابل، ليواجهوا التهديد البطيء والمؤلم للحرمان.
ثم، مع اشتداد القتال في الأشهر الأخيرة، وشد الحصار حول الفاشر، ظهر مسار جديد للهروب. بدأت القوات المشتركة، التي ظلت على الحياد في الصراع، في تنسيق إجلاء المدنيين إلى (طويلة) . كانت بصيص أمل، فرصة للفرار من الحصار. تدفق الآلاف من المدينة، يسترشدون بهذه القوات، بحثًا عن ملجأ. المنظمات الإنسانية، التي كانت تعاني من ضغوط شديدة ولكنها مصممة، كانت هناك لاستقبالهم، وتقديم ما يمكنها من مساعدة فورية٬ لكن بالنسبة لأولئك الذين وصلوا إلى طويلة، لم يكن الهروب سوى مبادلة. لقد حل محل الخطر المباشر للحرب عدو جديد خفي هو الافتقار الشديد والوحشي لكل شيء. لم تكن هناك مخيمات جاهزة، ولا ملاجئ جاهزة. كل عائلة كانت تتدافع للعثور على قطعة أرض، أو بقعة من السماء المفتوحة لتسميها ملكها. ومع وصول المزيد والمزيد من الأرواح اليائسة، تضاعفت التحديات، مما خلق أزمة بيئية غير مسبوقة.
الرعاية الصحية، وهي حق أساسي من حقوق الإنسان، أصبحت رفاهية. وصل معظم النازحين حاملين قائمة طويلة من الأمراض، تفاقمت بسبب الحصار الطويل وصعوبة الحصول على الأدوية في الفاشر. وبينما تمكنت المنظمات بشجاعة من إدارة الحالات الطارئة، فإن أولئك الذين يحتاجون إلى رعاية أكثر تقدمًا واجهوا رحلة شاقة أخرى إلى (قولو) في منطقة(جبل مرة) أو إلى مدينة (نيالا).
"نحن نعيش في مرحاض مفتوح"، قالها أحد السكان النازحين لـ "سودان سكوب"، مسلطاً الضوء على أزمة الصرف الصحي الخطيرة. العدد الهائل من الناس، الذين اضطروا لقضاء حاجتهم في العراء، مما خلق بيئة خصبة للأمراض. وبالفعل، بدأت الأوبئة في الانتشار، مدفوعة بنقص التثقيف الصحي والحجم الهائل للنزوح، الذي دفع المنظمات الإنسانية إلى أقصى حدودها.
الخسائر على الأطفال مؤلمة بشكل خاص. لفترة طويلة جدًا، تم استبدال فصولهم الدراسية بالغبار واليأس الناتج عن النزوح. وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى طويلة، كان العام الدراسي يقترب من نهايته بالفعل، فرصة ضائعة، قطعة أخرى مسروقة من طفولتهم.
رسم عامل من منظمة دولية تعمل في علاج النازحين صورة حية ومؤلمة لـ "سودان سكوب". وأوضح أن التحدي الأكبر ليس فقط الجروح الجسدية، بل الندوب الخفية المحفورة عميقًا في عقول أولئك الذين واجهوا الموت يوميًا لعدة أشهر. الصدمة النفسية منتشرة، وتتطلب علاجًا عاجلاً ومكثفًا. الأهوال التي تعرض لها الأطفال والنساء وحتى الكبار كانت عميقة لدرجة أن البعض ببساطة انسحبوا إلى داخل أنفسهم، عقولهم تكافح لفهم الواقع من حولهم.
ثم هناك الأصغر والأكثر ضعفًا من الضحايا: الأطفال الذين يصلون بدون أسر. فقد البعض كلا الوالدين، وانقطع آخرون عن الاتصال بمن تبقى حيًا من أقاربهم، بعد أن قطعت الفوضى الناتجة عن الحرب سبل التواصل. وكشف المصدر أن هذه أزمة ليس لدى المنظمات حل فوري لها، وهي نتيجة مدمرة لا يمكن معالجتها حقًا إلا عندما تتوقف الحرب نفسها .
بينما يوجه العالم أنظاره إلى أماكن أخرى، يواصل شعب الفاشر كفاحه المستحيل من أجل الحياة، محاصرين بين الرعب الذي فروا منه والخراب الذي وجدوه. ما الذي سيتطلبه الأمر ليُسمع صراخهم الصامت، ولتصبح حياتهم المستحيلة ممكنة أخيرًا؟