الكباشي أحمد عبد الوهاب
الحروب ليست مجرد دويّ مدافع وخراب مدن وضحايا مدنيين من الجوعى والمرضى واللاجئين والنازحين، إنها أيضًا شرخ في جدار السيادة الوطنية وتصدعٌ في حدود الخرائط. فحين تضعف الدول وتتهاوى تحت وطأة النزاعات، تجد نفسها فجأة وقد فقدت جزءًا من ترابها، إما لعقود طويلة أو ربما إلى الأبد. وليس التاريخ إلا شاهدًا أمينًا على هذه الحقائق، فقد خسرت الصين ميناء هونغ كونغ وشبه جزيرة كولون لصالح بريطانيا بعد حربي الأفيون الأولى والثانية، وفي الجوار العربي، عاشت مصر تجربة مشابهة حين انتزعت إسرائيل شبه جزيرة سيناء وطابا.
أما السودان، فقد كان له نصيب وافر من مثل هذه المآسي. ففي لحظة ضعف سياسي وأخلاقي أعقبت محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا، تورط فيها نظام "الإنقاذ"، وجدت مصر وإثيوبيا فرصتهما الذهبية لابتلاع أراضٍ سودانية. فاستولت القاهرة على مثلث حلايب، وابتلعت أديس أبابا الفشقة.
في أبريل من العام 2016م، تم ترسيم الحدود البحرية بين جمهورية مصر والمملكة العربية السعودية في غياب السودان الذي يملك حدودا بحرية مشتركة مع الدولتين، ما يجعله طرفا أصيلا في أي ترسيم حدودي لضمان وحفظ حقوقه في عملية الترسيم، وقد أفضت عملية الترسيم الثنائية إلى اعتراف مصر بملكية المملكة العربية السعودية لجزيرتي "تيران وصنافير"، وقد تم هذا الترسيم على أساس الخط البحري الذي رسمته مصر عام 1990م، بناء على قرار رئاسة الجمهورية المصرية رقم "27" لنفس العام، والقاضي بملكية مصر لمثلث حلايب البري، وتبعا لذلك الساحل البحري المطل على البحر الأحمر بطبيعة الحال. وهو أمر يتعارض مع اتفاقية الخرطوم لاستغلال ثروات البحر الأحمر المشتركة، الموقعة بين السودان والمملكة العربية السعودية في عام 1974م.
ويعود أصل الخلاف على المثلث بين الدولتين إلى تفسير اتفاقيات تاريخية أبرمت بين عامي 1899م و1902م، حيث تتمسك مصر بأن بخط العرض 22 شمال هو الحد فاصل للحدود السياسية بين البلدين، ما يجعل ملكيتها مصرية، بينما يستند السودان على القرار الإداري للعام 1902م، والذي يحدد موقع حلايب على الجنوب جغرافيا من خط العرض 22 شمال، وبالتالي وقوعها في النطاق الجغرافي للحدود السودانية. وقد نشأ أول خلاف بين السودان المستقل ومصر حول المثلث في عام 1958م حين قام نظام الفريق ابراهيم عبود بإجراء انتخابات برلمانية في دائرة حلايب، كما قام في المقابل أيضا نظام ثورة 23 يوليو برئاسة جمال عبد الناصر بإجراء استفتاء في حلايب، في نفس العام حول اتحاد مصر مع سوريا.
وفي العام 1995م أثناء توجه الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لحضور قمة افريقية في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا، قام نظام الجبهة الإسلامية بإرسال عملاء سودانيين بالتعاون مع جماعات اسلامية مصرية لاغتيال الرئيس المصري، وفي أعقاب فشل محاولة الاغتيال استغل النظام المصري الحادثة، وقام باحتلال مثلث حلايب وبسط السيادة المصرية عليه منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم.
وفي سياق تتابع الأحداث فيما يتصل بالنزاع حول ملكية المثلث بين مصر والسودان، لابد من الإشارة إلى ما أكده خبير القانون الدولي د. فيصل عبد الرحمن علي طه، الذي أشار إلى أن السودان أضاع فرصًا ذهبية لحماية موقفه القانوني، منها امتناعه عن دعوة مجلس الأمن لجلسة طارئة فور دخول القوات المصرية إلى حلايب، والاكتفاء بالصمت عندما رُسمت الحدود البحرية بين مصر والسعودية، مع أن السودان طرف معني بالملف بصورة أصيلة، لوجود حدود مشتركة مع الدولتين. بل إن الخارجية السودانية، بدلًا من التحرك، قدّمت التهاني للرياض، وهو موقف يمكن أن يُستغل قانونيًا ضد الخرطوم كإقرار ضمني بملكية مصرية للمثلث.
قضية حلايب لم تُدار كما ينبغي، بل أُهدرت فيها فرص تاريخية، ليس فقط بسبب تورط النظام السابق في جريمة دولية، بل أيضًا نتيجة ضعف الكفاءة الدبلوماسية. وزير الخارجية الأسبق إبراهيم غندور مثال صارخ على ذلك. فقد بارك لنظيره السعودي استعادة تيران وصنافير من مصر، بغير وعي منه ربما -أو ربما بوعي وإدراك- أن هذه التهنئة قد تُستغل كإقرار ضمني بأن حلايب أرض مصرية، تمامًا كما حدث في سابقة "شرق جرينلاند" التي حكمت فيها محكمة العدل الدولية ضد النرويج اعتمادًا على تصريح لوزير خارجيتها، التي أشار إليها د. فيصل عبدالرحمن في كتابه " مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور".
هذا الموقف، وغيره من المواقف المتخاذلة، يفرض فتح ملف تحقيق شفاف لمحاسبة غندور وغيره ممن قصّروا في ملف من صميم قضايا السيادة الوطنية. ويُضاف حديثًا، تصريح وزير المالية جبريل إبراهيم في النصف الأخير من أغسطس 2024 بعدم معرفته بطول الساحل السوداني وما إذا كان الساحل يشمل حلايب أم لا، ولا يخفى بالطبع ما قد يعكسه هذا التصريح من تأثيرات سلبية على سلامة ووحدة أراضي البلاد، ويظهر بجلاء التخبط الذي تُدار به شؤون الدولة السيادية وتعريض حقوقها في الحفاظ على أراضيها إلى ضعف الموقف القانوني في حالة إحالة النزاع إلى التحكيم الدولي.
اليوم، ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، يعيش السودان حالة ضعف أشد خطورة. فبينما تنخر الحرب في عظم الاقتصاد والسياسة والمجتمع، تترنح الدولة في مواجهة احتمالات فقدان أراضٍ جديدة. الحدود باتت مهددة، والجوار يترقب بفارغ الصبر لحظة الانقضاض على ما تبقى من جسد الدولة المنهك. المفارقة المؤلمة أن دعاة الحرب أنفسهم يرفعون شعار الدفاع عن السيادة الوطنية، بينما نار الحرب التي يشعلونها تُقوّض أساس هذه السيادة. فإذا كانوا صادقين في دعواهم، فإن أول واجب وطني يفرضه المنطق والواجب هو السعي لإطفاء هذه النار لا إذكاؤها.
لا تزال خريطة "المليون ميل مربع" عالقة في ذاكرة السودانيين، تلك المساحة التي تقلصت بخطايا نظام الإنقاذ حين أصرّ على حرب عبثية مع الجنوب، أجهضت اتفاقية سلام كان يمكن أن تُبقي السودان موحدًا. والآن، إذا استمرت هذه الحرب المدمرة، فإن سيناريوهات التقسيم والانشطار تلوح في الأفق مرة أخرى، وقد يؤدي ذلك إلى خسارة المزيد من الأراضي.
السيادة لا تُحفظ بالحروب الداخلية وتفتيت الجبهة الوطنية، ولا تُصان بالرصاص المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، بل بالسلام والاستقرار وحسن إدارة الدولة. والتاريخ يعلمنا أن الخرائط الهشّة لا تصمد أمام الحروب، بل تتآكل شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى من الوطن إلا أطلال وذكريات.