بورتسودان-سودان سكوب
بينما تتجه الانظار نحو (بيت الضيافة) مقر الحكم الجديد و صراعات السلطة و الثروة تتكشف في بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، قصة أخرى لا تقل أهمية، قصة صحة عامة تتأرجح على حافة الهاوية. فبعد أن استقبلت المدينة تدفقًا هائلاً من النازحين بسبب الصراع المستمر، بدأت حمى الضنك ترفع رأسها، مهددة بإضافة عبء جديد على نظام صحي هش بالفعل.
لقد علّمنا التاريخ أن الأزمات لا تأتي منفردة؛ فالصراع يولد النزوح، والنزوح يخلق بيئات خصبة للأوبئة، والظروف الاقتصادية المتردية تحوّل العلاج من حق إلى رفاهية. هذا هو المشهد الذي يتشكل الآن في بورتسودان.
وفقًا لمصدر صحي مطلع تحدث لـ"سودان سكوب"، فإن انتشار حمى الضنك في بورتسودان لا يزال "محدودًا". ويشير المصدر إلى وجود "وفرة في الكادر الطبي والاختصاصيين" بالمدينة، مما يمنح بصيص أمل في القدرة على احتواء الوباء. وفي تطور إيجابي، أكد مسؤولون أن جميع المستشفيات تعمل "بكامل طاقتها "وشهدت" تضاعفًا ملحوظًا في قدرتها الاستيعابية" مؤخرًا. هذه أخبار تبعث على التفاؤل، لكن السؤال يظل: هل هذه القدرات، مهما تضاعفت، كافية لاستيعاب مدينة تضخمت أعداد سكانها بشكل كبير؟
فالاكتظاظ السكاني، كما نعلم، هو بيئة مثالية لانتشار الأمراض المعدية.
و في خضم الحديث عن حمى الضنك، لا يمكننا أن نغفل التحديات الصحية الأخرى التي تواجه المدينة. على الرغم من عدم وجود أمراض واسعة الانتشار تستهدف حديثي الولادة في الفترة الحالية، إلا أن المناطق الطرفية من بورتسودان لا تزال تعاني من "تفشّي أمراض سوء التغذية". هذا الواقع يسلط الضوء على الفوارق الصارخة في توفر الرعاية الصحية الأساسية. ففي عالم مترابط، لا يمكننا فصل صحة جزء من المجتمع عن صحة الكل؛ فالضعف في الأطراف قد يؤدي إلى انهيار في المركز. إن الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض، بما في ذلك حمى الضنك، مما يخلق حلقة مفرغة من المعاناة.
على صعيد توفر الأدوية، تشير تقارير صحية إلى "توفر معظم الأدوية" في الصيدليات الخاصة والمستشفيات. للوهلة الأولى، يبدو هذا مطمئنًا. ولكن، وكما أشار أحد سكان المدينة لـ"سودان سكوب"، فإن" الدواء متوفر لكن من الصعب الحصول عليه لارتفاع سعره". هذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه الكثيرين في السودان اليوم. فما قيمة توفر الدواء إذا كان ثمنه باهظاً؟
يزيد الطين بلة "الغلاء الفاحش" في أسعار الأدوية، بالإضافة إلى توقف "خدمة التأمين الصحي لمعظم العلاجات". هذا الوضع يضع عبئاً مالياً هائلاً على كاهل المرضى وذويهم، ويهدد بقدرة الأسر على الحصول على الرعاية الصحية الضرورية. ففي غياب شبكات الأمان الاجتماعي وخدمات التأمين الصحي الشاملة، يصبح المرض نقمة مالية تدفع الأسر إلى الفقر المدقع.
و لا يمكن فهم الوضع الصحي في بورتسودان بمعزل عن الأزمة الأوسع التي تعصف بالسودان. فبعد أكثر من عامين على اندلاع الصراع، شهدت البلاد دمارا هائلاً، وتشريداً غير مسبوق، وأزمة إنسانية متفاقمة. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 13 مليون شخص نزحوا داخل السودان أو إلى البلدان المجاورة بحلول مارس 2025. لقد تسببت الحرب في انهيار شبه كامل للخدمات الأساسية، بما في ذلك الصحة والتعليم، وأدت إلى انكماش الاقتصاد السوداني بشكل حاد، مع توقعات بوصول نسبة الفقر المدقع إلى 71% من السكان.
هذا الانهيار الاقتصادي، الذي تضمن تضخماً بلغ 170% في عام 2024 وانهياراََ في قيمة الجنيه السوداني، يعني أن الغلاء الفاحش في الأدوية ليس مجرد مشكلة محلية في بورتسودان، بل هو انعكاس لواقع اقتصادي أليم يهدد حياة الملايين. المستشفيات في المناطق المتأثرة بالنزاع، خارج بورتسودان، تعاني من إغلاق ما يصل إلى 70% من منشآتها، ونقص حاد في الكوادر الطبية والإمدادات. هذا يضع ضغطًا إضافيًا على بورتسودان كملاذ نسبي، لكنه أيضًا يجعلها نقطة جذب للأمراض.
و في ظل هذا المشهد القاتم، تلعب المعونات الدولية دوراً حيوياً، لكنها تواجه تحديات جمة. منظمات مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، واللجنة الدولية للإنقاذ (IRC)، ومنظمة أطباء بلا حدود (MSF) تعمل على تقديم الدعم الطبي، والمياه، والصرف الصحي، وخدمات التغذية. ومع ذلك، فإن الوصول إلى المحتاجين يظل عائقًا كبيرًا بسبب انعدام الأمن، والقيود على الحركة، والتحديات اللوجستية.
التقارير تشير إلى أن تمويل خطط الاستجابة الإنسانية لا يزال غير كافٍ. كما أن بعض المنظمات واجهت تخفيضات في التمويل أدت إلى إغلاق مطابخ مجتمعية وعيادات صحية حيوية، مما يعرض المزيد من الأرواح للخطر. هذه التخفيضات في المساعدات تزيد من تفاقم الأزمة الصحية، وتجعل المجتمعات مثل بورتسودان أكثر عرضة للأوبئة و تهدد نظامها الصحي بالانهيارإن الوضع في بورتسودان هو تذكير صارخ بأن الصحة العامة ليست مجرد مسألة طبية بحتة، بل هي متشابكة بعمق مع الاقتصاد، والسياسة، والاستقرار الاجتماعي و قبل كل هذا إيقاف صوت الرصاص ليتمكن الأطباء من العمل.