"٤ - ٥ "
د. عيسى حمودة
مقدمة:
تتألف هذه السلسلة من المقالات من تحليل متعمق حول كيفية تنفيذ العدالة وتعزيز المصالحة والسلام في ليبيريا بعد انتهاء الحرب الأهلية، بالاعتماد على العرف المجتمعي والمبادرات الشعبية في عمليات الصلح وتحقيق العدالة. تستعرض السلسلة الدراسات والتقارير المنشورة التي تناولت هذه التجربة الفريدة في ليبيريا، بالإضافة إلى مشاهدات الكاتب بشأن التدخلات الأخرى التي ساهمت في تعزيز السلام خلال الفترة ما بعد الحرب الأهلية في البلاد.
تسعى المقالات إلى إبراز أهمية الأدوار غير الرسمية والمجتمعية في تحقيق العدالة وتقريب الهوة بين الجناة وضحاياهم، لتقليل الفجوات بين الأطراف المتنازعة في ظل توسع النزاعات والحروب. تؤكد هذه الحلول الأهلية على أهمية السلم الاجتماعي والعيش المشترك، وتجسد المقولة المعروفة "الحي أبقى من الميت".
آلية "كوخ حل النزاعات" لتحقيق العدالة الانتقالية:
اوردت في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة التوصيات الرئيسية للجنة الحقيقة و المصالحة و التي نشر تقريرها في 2009. تضمنت توصيات اللجنة العمل علي تعزيز المصالحة عبر تشجيع المبادرات الموجهة لتعزيز التعافي الاجتماعي والمصالحة بين الليبيريين، مثل مبادرات الحوار و الجهود الشعبية و التقليدية في حل الصراع.
أعيد هنا نشر المقدمة التي ذكرت فيها تعريف آلية "كوخ القضايا أو المشاكل" Palava Hut Mechanism، وهي تجربة اعتمدت على تقليد وعرف قبلي قديم في ليبيريا، قبل قدوم مجموعة المستوطنين من الأمريكوليبيرين، لحل النزاعات عبر عملية توفيقية "يقوم عليها زعماء وشيوخ القبائل لحل القضايا المجتمعية مثل: الخيانات الزوجية، والطلاق، ونزاعات الأراضي، والديون، والسرقات، وفي حالات نادرة تشمل حالات القتل والاغتصاب". يمكن تشبيه هذه الآلية بالمحاكم الأهلية، أو مبادرات الصلح الأهلي في الريف السوداني، مع اختلاف مقدر في حالة "كوخ القضايا والمشاكل" التي تعمل على إتاحة "منبر" شعبي/مجتمعي للتعبير والتفاعل الحر، وليس فقط البتّ في القضايا بين الضحايا ومنتهكي حقوقهم الإنسان، كما سنفصل لاحقاً. لتحقيق ذلك، تتم هذه النقاشات والمحاكمات في كوخ أو قطية من القش، يمكن تشبيهها بـ "الضراء" في الريف السوداني.
وكلمة Palava في العامية الإنجليزية تُستخدم لوصف موقف صعب أو مرهق، أو عندما يكون الشخص منزعجًا أو غاضبًا. وهي كلمة من أصل برتغالي/لاتيني وتعني الحديث أو التداول أو التفاوض حول أمر مهم. وانتشرت الكلمة في غرب إفريقيا مع رحلات التجار البرتغاليين وتفاوضهم مع زعماء القبائل الإفريقية.
انطلق برنامج كوخ حل النزاعات في الربع الأخير للعام 2013، حيث تم إطلاق البرنامج رسميًا من قبل الرئيسة الليبيرية آنذاك، إيلين جونسون سيرليف.
كيفية عمل الآلية:
في شكلها التقليدي، يعقد شيوخ القرية مجلسا في كوخ او قطية في البلدة او الحي السكني، و يأتي الجاني أو المتهم بالجريمة، ويعتذر عن الخطأ المرتكب أمام الضحية أو اسرة المجني عليه ويسعى للحصول على المغفرة من الضحية. يمكن لأي شخص ارتكب جريمة (سواء عن قصد أو غير قصد) ضد فرد أو مجموعة أو الدولة أن يكون مؤهلاً للعفو أو المغفرة شريطة أن يقر المتهم بالجريمة التي اركتبها. تقوم لجنة او مجلس حكماء كوخ حل النزاعات بتوبيخ الجاني وتقديم العزاء للضحية، مع تقديم اعتذاراتهم عن معاناتها. بعد ذلك، يتم إجراء طقوس التطهر من الذنب و العفو حسب عرف كل مجموعة و الاتفاق علي التعويض المادي او المعنوي لاستكمال العملية.
في اغلب الأحوال تشمل طقوس التطهر و العفو في شرب الجاني و الضحية ماء مبارك (بعد الصلاة) يرمز إلى "تطهير القلب"، وهو تكريس لعهد أخلاقي وروحي للتخلي عن الماضي واحتضان مستقبل من المصالحة والتعايش السلمي.
ولتسهيل و توسيع نطاق هذه العملية تم وضعها تحت إشراف اللجنة الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان، و توفر لها دعم مادي و فني من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ليبيريا.
ساعد هذا التاسيس في عقد العديد من أكواخ حل النزاعات، شمل ذلك حتي المناطق الحضرية حيث تم تكوين و تدريب "مجلس حكماء".
منذ عام 2013، تم استخدام هذه الآلية العدلية في أجزاء مختلفة من البلاد لمعالجة الانتهاكات "الأقل حدة"، بدءاً من النهب وتدمير الممتلكات، إلى أعمال معينة مثل التعذيب والإذلال، إلى العمل القسري والتهجير.
مثلا في واحدة من القري في إحدى مقاطعات ليبيريا، عقدت جلسات لكوخ حل النزاعات تحت رئاسة امرأة لتورط كبير شيوخ القرية نفسه في الحرب الأهلية. في هذا القرية تم الاستماع إلى 49 قضية و تم حل 48 منها بشكل ودي. و تعمل آلية كوخ حل النزاعات في القرية علي دعم و مساعدة الضحايا للتعامل مع الصدمة التي تعرضوا لها، و ذلك عبر إعادة بناء التماسك الاجتماعي في مجتمعهم.
لابد من التنبيه هنا الى ان هذه الآليات الشعبية التقليدية للعدالة لم تكن تهدف لتحقيق العدالة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والفظائع التي اشتهرت بها الحرب الأهلية في ليبيريا. كما ان مثل هذه الآليات التقليدية ليست ذات جدوي كبيرة في حالات الضحايا الذي تضرروا بصورة بدنية او اقتصادية بصورة كبيرة. لكن بالنسبة للكثيرين الذين أتاحت لهم هذه الآلية مساحة آمنة لمواجهة المعتدين عليهم، فإن مجرد رؤية الجاني وسماعه وطلبه المغفرة كان مهما للغاية و كافيا- كما تم توثيق ذلك - من خلال تجربة احد أفراد القرية شارك في الحرب و يدعي ساباتو. مَثَل هذا المقاتل امام مجلس حكماء كوخ حل النزاعات في مواجهة شخص من الاسرة التي اعتدى عليها، و حكى هذا الاخير للمجلس عن كيفية قيام ساباتو واثنين آخرين بتعذيب عائلته وإساءة معاملتها في عام 1994 في قريتهم٬ ذكر ممثل الاسرة ان المقاتل ساباتو أمر والده أن يعطيه بندقيته الوحيدة. أخبره الوالد أن البندقية أحرقت في المنزل و لكن لم يصدقه ساباتو و اشترى حبلا و قام مع مجموعة من المقاتلين بربط الرجل وزوجته و الضحية ( المتحدث في الجلسة)، وضربوهم بأعقاب البنادق. عدد المجني عليه أشكالا أخرى من العنف التي قام به المقاتلون. وقف ساباتو و قال في بعض الأحيان ننسى بعض ما فعلناه أثناء الحرب و لكم " لم آت إلى هنا لأجادل، بل لأعتذر لك و لعائلتك". كان هذا كافيا للضحية الذي رد عليه قائلا : "كان هذا ما أردته - اعتراف واعتذار منك."
شاركت عدة منظمات دولية و أممية في دعم هذه الآلية الشعبية/التقليدية. و قد وصفت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيريا كوخ حل النزاعات بأنه"يسعى إلي تعزيز التعافي والمصالحة المجتمعية كأساس للتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية من خلال الإقرارات العلنية والاعتراف والاعتذار عن انتهاكات حقوق الإنسان٬ وغيرها من الانتهاكات الجماعية التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية في المجتمعات المحلية". وتم تطوير الآلية لتقديم دعم لجبر الضرر. كما منحت هذه الآلية سلطة تقديم شفاعة او توصية لتقليل أو إلغاء العقوبة عن الأشخاص الذين أرتكبوا جرائم ضد الدولة و الذين حرمتهم لجنة الحقيقة و المصالحة من ممارسة العمل العام و النشاط السياسي.
وفي رأي الشخصي أن "توسيع" و تسييس لهذه الآلية الشعبية/المجتمعية، إذ حرمت لجنة الحقيقة و المصالحة العديد من الشخصيات السياسية البارزة في ليبيريا من ممارسة العمل العام و النشاط السياسي، بمن فيهم الرئيسة إيلين جونسون سيرليف نفسها، و شخصيات بارزة في الحكومة و البرلمان، البعض منهم لوردات حرب سابقين.
هذه التوصيات من آلية الكوخ تخضع للجنة المستقلة لحقوق الإنسان، و الأخيرة لديها سلطة مراجعة القرارات عند الطلب.
واحد من أوجه قصور هذه الآلية التقليدية و بسبب التركيبة الاجتماعية التقليدية بين الجنسين - النساء و الرجال- في المجتمعات الريفية، لم تتح فرصة كافية لسماع أصوات النساء في كثير من الأحيان.
و قد عملت لجان دولية على تقديم الدعم الفني لتطوير الآلية لضمان سماع أصوات النساء، خاصة في قضايا العنف النوعي و العنف الجنسي من اغتصابات و غيرها.
إن إشراك النساء في هذه الاليات و الأعراف المجتمعية مهم لما للمرأة من دور محوري في حل النزاعات.
في الحلقة الخامسة و الأخيرة سأعلق على تجربة ليبيريا ككل في مجال العدالة الانتقالية مع تقييم لدورها في الاستقرار - ضمن حزمة سياسات تدخلات في التنمية و الإصلاح الأمني- منذ توقف الحرب في 2003.