كمبالا-سودان سكوب
في زمن تمزق فيه أوصال السودان بفعل حرب ضروس، تتجلى الحاجة الماسة إلى الأصوات التي تُعلي قيمة الثقافة والفكر، وتذكرنا بالنسيج الغني لهذا الوطن. في قلب هذه الفوضى، يبرز اسم الشاعر والأديب فضيلي جماع، الذي استضافه مؤخراً مركز "طيبة برس" في كمبالا، ليقدم جلسة مؤانسة استمرت ثلاث ساعات، تاركةً في نفوس الحضور الكثير من الأمل والحب لوطن رحلوا عنه قسراً.
كان اللقاء، الذي أدار دفته الدكتور صلاح الأمين والإعلامي والناقد الأستاذ السر السيد، فرصة للغوص في سيرة رجل تجاوزت حياته المسارات المعتادة، ليصبح صوتاً مؤثراً من هامش السودان إلى صلب المشهد الثقافي العالمي.
رحلة من "اللو" إلى موسكو ولندن
ولد فضيلي جماع في منطقة "اللَّو" وهي منطقة تمازج بين الشمال والجنوب في بحر العرب، وهي منطقة حفرت فيه بذور تجربته الإنسانية العميقة. لم تكن طفولته سهلة، إلا أنه شق طريقه نحو التعليم في مناطق اعتبرت "نخبة" في ذلك الوقت. بدأ تعليمه في بابنوسة، ثم الفولة، وصولاً إلى مدرسة خور طقت الثانوية، حيث بدأت باكورة إبداعاته الشعرية تنشر في جريدة "كردفان". لم يقتصر نشاطه على الأدب، بل كان لاعباً ماهراً لكرة القدم، متنقلاً بين فرق مدرسية وصولاً إلى فريق الآمال في المجلد.
كانت جامعة الخرطوم محطته التالية، حيث تخصص في الأدب الروسي، ليأخذه شغفه بالمعرفة إلى موسكو، ومن ثم إلى ساوث هارو في بريطانيا، حيث نال درجة الماجستير عن رواية "كونجي هارفست" للكاتب النيجيري وولي سوينكا، أول أفريقي يفوز بجائزة نوبل للآداب. وهو قد تعرف على وول شوينكا باكراً قبل أن ينال جائزة نوبل للآداب من خلال ترجمة Kongi Harvest أو حصاد كونجي. هذا المسار الأكاديمي والفكري يؤكد على قدرة جماع على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، مستوعباً تيارات فكرية عالمية، ومتقاطعاً مع عمالقة الأدب الأفريقي.
يُعرف فضيلي جماع بتواضعه الجم، وهو ما يظهر جلياً في قوله إنه لا يرى نفسه مبدعاً بقدر ما يرى في تقييم القراء لكتاباته دليلاً على جودتها. يطمح أن يكون "مثقفاً عضوياً" حسب وصف الفيلسوف الإيطالي غرامشي، لا صاحب مشروع أدبي بالمعنى التقليدي.
أعمال تتجاوز السيرة الذاتية
وعلى الرغم من أنه لم يسطّر سيرته الذاتية بشكل مباشر، إلا أن أعماله الشعرية والروائية هي خير دليل على ملامح هذه السيرة. فثلاثيته الروائية: "دموع القرية"، "هذه الضفاف تعرفني"، و"زغرودة في حوش أبا الناير"، كلها تشير إلى "صبي من اللَّو بياحة المجلد"، كما يصف نفسه. هذه الأعمال ليست مجرد سرد لحياة شخصية، بل هي نصوص عميقة تستكشف الهامش والمركز، والتداخلات الثقافية والاجتماعية في السودان.
من أبرز النصوص التي تُبرز هذه الملامح قصة طفلين، أحدهما من قبيلة الدينكا والآخر من العرب الرحل، يتسابقان في بحر العرب. هذه القصة، التي تُظهر رغبة طفل البقارة في إثبات ذاته أمام صديقه "الجنقاوي" وتجنب سخرية أهله، تُشير إلى عمق فهم جماع للنسيج الاجتماعي والقبلي في السودان، وصراع الهويات في منطقة بحر العرب. إنها ليست مجرد حكاية، بل هي رمز لمشهد سوداني معقد.
مفهوم "الهامش العريض" ونبوءة الحرب
يُقدم جماع مفهوماً لـ"الهامش العريض"، يرى فيه أن الهامش ليس حكراً على منطقة بعينها، وإنما تختلف درجاته. يشير إلى مناطق في شمال السودان حيث تموت النساء أثناء الولادة لغياب المراكز الصحية، بينما في جنوب كردفان، ورغم وجود بعض الاستقرار، يظل التهميش قائماً. لكنه يذهب أبعد من ذلك، ليؤكد أن أكثر إنسان مهمش هو "الذي يركب ظهر الثور " أو قبائل البقارة، الذين يمتدون من النيل الأبيض غرباً إلى بوركينا فاسو، ويمثلون ثقافة فريدة من نوعها في العالم لركوبهم الأبقار. هذا التصوير يجسد فهمه العميق للتفاوت الاجتماعي والجغرافي في السودان.
وما يثير الدهشة، هو نبوءة جماع بقدوم الحرب. في روايته "هذه الضفاف تعرفني"، على لسان بطله فارس، يقول: "اليوم قد حشرت السلطة أنفها في هذا الحكم من البلاد هل يتساءل العقلاء هل فكر الذين أشعلوا الحرب أن ألسنة الحرب لما تصل يوما غرفتهم المترفة من المدينة ". هذه الكلمات، التي كُتبت قبل اندلاع الصراع الحالي، تبدو اليوم كصيحة تحذيرية، تُظهر بصيرة الشاعر وقدرته على استشراف المستقبل من خلال فهمه العميق لطبيعة الصراع على السلطة في السودان.
إنجازات أدبية وثقافية
لفضيلي جماع أربعة دواوين شعرية: "في أودية الغربة"، و"الغناء في زمن الخوف"، و"شارع في حي القبة"، و"المشي على الحبل المشدود"، بالإضافة إلى أعماله الروائية. أيضاً، يمكن الإشارة إلى مسرحيته "المهدي في ضواحي الخرطوم" وكذلك مسلسله الإذاعي "الشمس والقطار" التي تعكس غزارة إنتاجه وتنوعه. لقد استطاع، برفقة بعض أبناء كردفان، أن يدخل المفردة الكردفانية إلى الأغنية المركزية في السودان، متحدياً "شراسة المركز الثقافية" التي لا تقبل غالباً المفردات الأخرى.
أغانيه مثل "ردي القليب جيبيهو"، "جيناك زي وزين"، "كلم قمارينا"، و"ودي السلام ليهو" هي خير دليل على هذا الإنجاز.
إن مسيرة فضيلي جماع هي قصة أديب وشاعر لم يكتفِ بتصوير الواقع، بل حاول فهمه، وتفكيك أبعاده، والتنبؤ بمساراته. في زمن تزداد فيه الحاجة إلى أصوات الحكمة، يظل جماع نبراساً ينشر السلام شعراً ونثراً، مذكراً الجميع بأن الثقافة والفكر هما السبيل الوحيد لتجاوز ويلات الحرب وبناء مستقبل أفضل للسودان.