"كوخ القضايا و حل النزاعات"
د. عيسى حمودة
مقدّمة
هذه سلسلة من المقالات، تتناول تجربة ليبيريا في إنفاذ العدالة، والمصالحة، وتعزيز السلام، عبر استخدام العرف الأهلي والمبادرات المجتمعية في الصلح وتحقيق العدالة في فترة ما بعد الحرب الأهلية. تتناول السلسلة ما نُشر عن تجربة ليبيريا في هذا الشأن، إضافة إلى مشاهدات وملاحظات من الكاتب حول تدخلات أخرى ساعدت في تعزيز السلام وتحقيقه في فترة ما بعد الحرب الأهلية في ليبيريا.
في سياق التجربة الليبيرية ما بعد الحرب، تُعرف آلية "كوخ القضايا أو المشاكل" Palava Hut Mechanism بأنها آلية مجتمعية شعبية لحل النزاعات وإنفاذ العدالة من أجل المصالحة وتعزيز السلام. كانت هذه الآلية إحدى توصيات لجنة الحقيقة والمصالحة، وهي تجربة اعتمدت على تقليد وعرف قبلي قديم في ليبيريا لحل النزاعات عبر عملية توفيقية "يقوم عليها زعماء وشيوخ القبائل لحل القضايا المجتمعية مثل: الخيانات الزوجية، والطلاق، ونزاعات الأراضي، والديون، والسرقات، وفي حالات نادرة تشمل حالات القتل والاغتصاب". يمكن تشبيه هذه الآلية بالمحاكم الأهلية، أو مبادرات الصلح الأهلي في الريف السوداني، مع اختلاف مقدر في حالة "كوخ القضايا والمشاكل" التي تعمل على إتاحة "منبر" شعبي مجتمعي للتعبير والتفاعل الحر، وليس فقط البتّ في القضايا بين الضحايا ومنتهكي حقوق الإنسان، كما سنفصل لاحقاً. لتحقيق ذلك، تتم هذه النقاشات والمحاكمات في كوخ أو قطية من القش، يمكن تشبيهها بـ"الضراء" في الريف السوداني.
وكلمة Palava في العامية الإنجليزية تُستخدم لوصف موقف صعب أو مرهق، أو عندما يكون الشخص منزعجًا أو غاضبًا. وهي كلمة من أصل برتغالي لاتيني وتعني الحديث أو التداول أو التفاوض حول أمر مهم. وانتشرت الكلمة في غرب إفريقيا مع رحلات التجار البرتغاليين وتفاوضهم مع زعماء القبائل الإفريقية.
تهدف هذه المقالات إلى التأكيد على الدور غير الرسمي أو الشعبي والأهلي في إنفاذ العدالة، ورتق الانشقاقات بين الجناة وضحاياهم، بين ""نحن" و"هم"، التي تتوسع مع تمدد أجل ورقعة الصراعات والحروب في بلادنا. ويمكن الدور المحوري للحلول الأهلية والشعبية في كونها تشدد وتولي أهمية لمسألة الصلح والترابط الاجتماعي والتعايش الأهلي وتقديم حق الحياة على غيره, كما تجسده المقولة الاهلية الشائعة "الحي ابقي من الميت".
و قبل التفصيل في تجربة ليبيريا في هذا المجال، نتناول باختصار خلفية تاريخيّة للحرب الأهلية التي إمتدت لأربعة عشر عاما ( 1989-2003) ، و تجرية العدالة الانتقالية و توصيات لجنة الحقيقة و المصالحة.
خلفية تاريخيّة حول الحرب الأهلية الليبيرية
أمتدت الحرب الأهلية في ليبيريا لقرابة الخمس عشر عاما، تخللتها فترة وجيزة من السلام ما بين 1997-1999. و تعود جذور هذه الحرب الي طبيعة و ملابسات تأسيس ليبيريا المعقد,وما شهدته من تهميش سياسي و اقتصادي و اجتماعي ثقافي لقطاعات عريضة من سكانها. تعد ليبيريا اقدم جمهورية مستقلة في أفريقيا. إذ تأسست في أوائل القرن التاسع عشر بواسطة العبيد الأفارقة الأميركيين المحررين. في عام 1822، وصلت المجموعة الأولى من المستوطنين settlers ، ومع مرور الوقت، أسسوا مجتمعاً كان مميزاً عن السكان الأصليين indigenous في البلد. و رقم أنهم أقلية إلا أن الأمريكان الليبيريين America-Liberian ، سيطروا على المشهد السياسي و الاقتصادي، مهمشين بذلك المجموعات العرقية الأصلية العديدة. نتج عن هذا الوضع انقسامات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة كانت "تغلي" تحت السطح لعقود.
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية الوطنية و تطاول عهود التسلط تحت نظام الحزب الواحد الذي تسيطر عليه مجموعة الليبيرين الأمريكان مع تمثيل غير كافي للأغلبية من المواطنين الأصليين، و الذي ظل مسيطرا البلاد منذ تأسيس الجمهورية و لعدة عقود. نجح الرقيب صمويل دو الذي ينتمي إلى مجموعة السكان الأصليين، في العام 1980 في احداث إنقلابا أطاح بحكومة الرئيس ويليام تولبارت، و أنهي بذلك هيمنة الأمريكيين الليبيريين. وجد دو دعما شعبيا من السكان الأصليين بسبب التوترات و الانقسامات الاثنية، و الإقصاء و الإحساس بالتهميش و بالغبن وسط مجموعات العرقية من غير الليبيرين الأمريكان
رغم غني ليبيريا بالموارد الطبيعية (مثل خام الحديد، والأخشاب، والمطاط، والماس)، عاش معظم الليبيريين في فقر. شهدت السنوات التي سبقت انقلاب دو و تزايد الفوارق؛ و انتشار البطالة؛ و زيادة الفساد و سوء ادارة الموراد الطبيعية، و الاضطرابات الاجتماعية.
يتبع